التجارب السياسية عربياً اتخذت طريقة التناوب على الوقوع في فخ الفشل، فأضحت كل تجربة تطمس الأخرى في استبدادها وتنامي طيشها وصخبها، وتعاظم دورها السلبي على كافة المستويات. فنحن عربياً نعيش حالياً الكثير من التجارب السياسية التي تزعم التصحيح بينما هي تمارس تكرار الكرّات الفاشلة من دون تصحيحٍ للمسار أو استلهام للتجارب السالفة، إمعاناً في الإصرار على التجريب الفاشل المتكرر.

كل تلك الضوضاء بالإمكان استنباطها بقراءة أدنى كتاب يتحدث عن تاريخ العرب-في القرن الماضي خاصةً- نجده مليء بالتجارب المبتورة والمحاولات العقيمة المنفصلة عن التأسيس الثقافي والدراسة المتأنية لمشكلات الواقع التي تدعي أنها تتصدى لمجابهتها.

لن نكون في نفق متشائم حينما نتحدث عن ضرورة إعادة النظر الجذرية بتجارب التصحيح ومحاولات الانتشال، فهذه الدعوة تقتضي حماية الذات من الوقوع في شرك إحباط مضاعف، يجرّه إلى نفوسنا بعض المستعجلين لتجريب أدواتهم في تصحيح رؤيةٍ ما.

إن محاولة ضرب بعض المشاريع ببعض الأسئلة لا تعني التطبيع مع الواقع، بقدر ما تتجه نحو تصليب المشروع واستمهال طرحه ريثما يتم إنضاجه، أو تصحيح مساره الذي ربما يكون خاطئاً، كما أن ربط أي مشروع بمنهج شكّي واستفهامي، لا يعني اليأس، فحينما يكون quot;السؤال منهجياًًquot; فلا معنى لربطه باليأس، إذ اليأس بحسب كيركجارد هو (شك في الشخصية، كما أن الشكّ يأس في الفكر، فاليأس تعبير عميق عن كل الشخصية، بينما الشكّ هو تعبير فقط عن الفكر) من هنا أعتبر أي طرحٍ علمي لنقد أي تجارب جديدة عملية لتغيير الواقع المعاش شكاً علمياً وليس يأساً شخصياً كما يتوهم من لا يلتفت إلى أي نقدٍ أمين يتجه نحو المساءلة والمصارحة.

فمنذ فترةٍ طويلة، والترادح الحزبي بين السياسيين عربياً، يوصل إلى المشانق والتصفيات، متولّدة عن تجارب سياسية سبقتها، فهي على جبروت طغيانها-كانت تنظيراتها العلنية هادئة وسليمة- إلا أن التطبيقات المنفعلة بالذات والمنطلقة من حماية بيضة الحزب، حوّلت البيوت الآمنة إلى خراب. كل تلك التشويهات حدثت تحت يافطات حزبية تخلع على نفسها مشروعية تثبيت عرى الديمقراطية، فشهد العالم العربي ثورات كثيرة تزيد الواقع سوءاً وبؤساً، فآلت ثقافة التصحيح الانقلابية إلى مآلات غاشمة أكلت كل شيء.

فحُرم الناس من خبز يومهم من أجل صناديق اقتراع صدئة يعرف من سيفوز فيها قبلاً. وانتهى المشهد الديمقراطي الذي سبق بتنظيرات باذخة إلى حالات انقلاب تافهة تقودها أحزاب مليئة بالتضخم الأيديولوجي ويسكنها كالعفريت السبات المعرفي والثقافي، فاحتلت الأحزاب السياسية العالم العربي، وأباد الإخوة أخوتهم بمشاهد يهون عندها كل تاريخ استعماري أسود.

وبعد الفراغ الثقافي الذي خلفته تلك الأحزاب، استعان الجهل بالخرافة ليسدّ بأقصى سرعة خواء العقل، فاحتل الخرافيون مساحات العقل الشاسعة، بقصص وأوهام وتعاويذ وطلاسم أصبحت عنصراً عربياً وتغلغل ثعبان الخرافة ليدخل بيوتاً كثيرة، وليصيب سمه الكثير من الإنتاجات، لتؤسس فيما بعد ترسانات إعلامية جبارة دورها الأول والأخير ضخّ فوائد السموم والتحذير من الأدوية التي يعتبرونها مروقاً وخروجاً.

وذلك الفراغ لم يأت كنتيجة لانفجار بالونة القومية المنمّطة وإنما جاء أيضاً بفعل برامج تعليمية هجّينة تناقض نفسها بنفسها، لتخلق جبالاً من المعلومات المتناقضة، يطرد بعضها بعضاً، لتخرّج من بعد عقولاً تقفز بكل خبل متجاهلة النظريات الدقيقة ، وتطارد في الوقت نفسه حشرات العلم السطحية والعقيمة.

لقد كان ثمناً باهضاً ثمن الفشل الذي تناوبت عليه تلك التجارب، تُشعر بالإحباط كانت مرحلة مليئة بالتجارب ذات التنظير الجيد، ومليئة بالأخطاء القاتلة، كانت حفر الفشل واضحةً للعيان، إلا أن السكر بالعاطفة، وهرولة الجماهير خلف تلك الشعارات الجوفاء أعماهم عن النظر إلى الأرض. لقد مشينا بأعين شاهقة تشاهد صور الزعيم، فأوقعتنا تلك المشية بحفر كبيرة وصغيرة، وبينما نحن نغوص في الماء ونبقبق من الغرق/ نتمتم بمجد الزعيم! فلم نلتفت إلى أي فكرة متماسكة أو مشروع ضابط فأضحت كل مشكلاتنا نتيجة بائسة لعجلة مفرطة، تتجاهل الطريق الذي تسير عليه، وتضع عينها quot;فوقquot; باتجاه أوهامها المغرقة في الرومانسية والطيش.

جلّ ما نتمناه أن نرسم توازناً فكرياً في تعاملاتنا التصحيحية، بعيداً عن التجاهل الممض للواقع وتعقيداته، وبعيداً عن التسريع الصاعق ndash;عملياً- لطرح مشروعاتٍ ربما تجمّد ما نصبوا إليه آماداً ودهوراً، ونحن نظنّ أننا نغيّر بينما نحن نحرق كافة الآمال، حينما نحوّلها إلى مشروعات سطحية وساذجة. فلنطرح أي فكرةٍ نظرية وأي طموح ثقافي. بعيداً عن الحرق quot;العمليquot; لكافة المراحل التي لا يمكن لتجربة أن تنضج وتتكوّن بشكل صحيّ لائق إلا بعد أن تمرّ بها.

كاتب سعودي
[email protected]