يظلّ الاعلام الحرّ غير المقيّد حلما صعب المنال مهما اتسعت رؤاه وتشعبت مهامه وكثرت الميديا الاعلامية وخاضت غمار العولمة ووصلت الى حوافي العالم بشكل متسارع حتى اخترقت البرق وسابقت سرعة الصوت؛ وليس بالضرورة ان ما نريده لنا نلقاه رحيبا واسعا في إعلام اخترق كل الحدود، لكنه مهما تحرّكت رياحه واشتدّ هبوبها يصرّ ان يؤطرنا في معلومة معينة أو يحوطنا بطوقٍ أداره لنا وان كان قُطر ه واسعا أو على الاقل؛ يضع امامك بضعة خيارات عليك ان لاتخترقها او تتجاوزها وهذا مانسميه أسلوب التأطير ( Framed ) بحيث يكون عقل المتلقي محدّدا بما ينتقيه الإعلام لك وفقا لخياراته هو ولا يعبأ بقناعاتك، وكل ذلك يحصل بحنكة ساحرة وكأن حريتك متاحة طالما أذنَ لك ان تختار واحدة من العينات الموضوعة امامك، وهنا يتغازل القيد مع الحرية وقد يأنسان معا وشيئا فشيئا يقترنان ببعضهما ربما بصورة دائمية مثل زواج كاثوليكي لاينفصم.
ولتبسيط هذه النظرية اسمحوا لي ان اضرب مثلا بسيطا قد نعايشه كل يوم تقريبا؛ ففي صباحٍ قريبٍ وبعد ان قرأت جريدتي الورقية اليومية بشكل سريع كعادتي كلّ صباح رغم ان الصحف كلّها او معظمها متاحة امامي على النت، جلستُ على المائدة بانتظار زوجتي لتقدّم لي مشروب الصباح فقالت لي:
--- أتريد قهوة أم شايا أم حليبا؟
هذا السؤال منها أخذني بعيدا الى نظرية " التأطير الاعلامي " وسعيه لرسم الصورة التي يريدها لمتلقّيه سواء كان قارئا او مشاهدا ميديا معينة او سامعا؛ سيّما وان الجريدة الموضوعة امامي كانت لها رؤيا محددة تريد ان تحشرها حشرا في ذهني عن حدثٍ لازلنا نعيشه وتهدف من ورائه الى فرض قناعاتها عن هذا الحدث وفق أهوائها وكما ترتأيه هي وحدها لكني لم أقنع بما رسمتْـه الجريدة لي... ولا اخفي ما بداخلي ان هذا هو السبب الذي دعاني لكتابة مقالي الذي امامكم جراء عدم انجراري أو الوقوع في فخّ تحليلات ماكُـتب في الصحيفة الصباحية، اضافة الى انني كنت أعزم في داخلي ذلك اليوم الصباحيّ ان اخرق قاعدة كوب الإفطار الساخن المعتاد لأحتسي مشروبا باردا من عصير الفاكهة.
ولكن كيف لي ان اخرق القاعدة التي اعتدت عليها عقودا من الزمن وها انا الان ملزم بثلاثة خيارات فرضتها زوجتي، وعليّ ان انتقي منها واحدة او حتى اثنتين ولا اتجاوزها، فما قررت ان احتسيه اليوم لايتاح لي.
تلك هي اساليب التأطير التي يتخذها لاعبو الاعلام بمكرٍ ودهاء مرةً ولضرورات فكرية مرةً اخرى حينما يضعون امامك خيارات محددة تُوحي لك ان فسحة من الحرية قد قدّمت لك على طبق من ذهب دون ان تحسسك انك ملزم بانتقاء خيار معين؛ فأنت مثل طائرٍ يمتلك جناحين قويين ويمكنك ان تحط في اية بقعة تراها الأقرب اليك استئناسا وهدأةً غير ان قفص الاعلام – على سعتهِ بوقتنا الحاضر -- يحبسك في أساره وبنفس الوقت يتيح لك ان تنتقل وتحطّ في اركان القفص الاربعة حصرا حتى لو سمّوه عشّاً ذهبيا على سبيل التحبّب.
ففي الانظمة الشمولية ونظام الحكم الواحد فأنت في زنزانة انفرادية ضيقة خانقة؛ وقد تستعيد أنفاسك اكثر لو انتقلت الى زنزانة عامة أوسع بحيث يمكنك ان تمدّ ساقيك وترفع رأسك قليلا وتحاور جليسا نزيلَ سجن معك؛ فالحبل المشدود بخناقك لازال مُحكما على العنق ولكن عملوا على إطالته ليمتد بصرك أكثر وكل ماهنالك انت تنتقل من اعلام مسيّر الى اعلام مؤطّر بمجموعة من الرؤى ولا يمكنك ان تستطيل برقابك لترى اكثر.

يلعب المال الاعلامي نفس الدور الذي يلعبه المال السياسي فهو يُسيّر وفق الاجندة المرسومة له لكن بخيارات معدّة سلفا بحيث لايستطيع عقل المتلقي تجاوزها، تلك الخيارات مطبوخة سلفا على نار هادئة جدا مضافة اليها بهارات ماتشتهي النفس وملوحة محببة رائقة آنيا لكنها تسبّب السقام مستقبلا وايّ سقام موجع يدور في الذهن دورته ويمنعه من الابتكار والخروج الى باحة الحرية.

وبدلا من رسوخ مؤسسات الرقابة البائنة امام أنظارنا كشرائط من الخطوط الحمر المحظور تجاوزها في طريق الفكر ستنمو وترتسم آجلا في عقل المتلقي مثل قوة ناعمة الملمس يصعب الفكاك منها.

تلك هي ألاعيب الإعلام التأطيري سواء كان مرئيا او مسموعا او مقروءاً؛ انه لايريدك ان ترى ما تريده أنت وماعليك الاّ ان تجلس منتظرا ما سيقدم اليك من مشاهد عليك ان ترضى بها ويزداد هذا التأثير في المجتمعات التي يطغى فيها الجهل ويسود فيها نمط الاستكانة وتقبّل مايطرح غثّا كان ام سمينا وهنا ترسخ الفكرة المطلوبة في العقل الجاهل وغير المتمرّس رسوخ الخرسانة في أسس البناء.

لست هنا في بحث أكاديمي لتبيان ودراسة جوانب التأطير الاعلامي كلها في مقالة قصيرة غير اني لابد ان أشير الى دور صنّاع القرارات الكبار في ترسيخ هذا المسعى إضافة الى الهيئات السياسية النافذة والفاعلة التي لها اليد الطولى في تدوير قناعات المتلقي ليكون على هواها وتحت إمرتها لكونها تمتلك سطوة سياسية ومالية لتغيير مجرى الاعلام وتختار له المصبّ المعيّن المرسوم له وقد تكون تلك الهيئات الفاعلة على شكل مؤسسات كبرى او شخصيات اعلامية مؤثرة ذات كاريزما وجاذبية تلزمك وتطوّعك بشكل سلس لاختيار ما يناسبها هي فترى نفسك مأسورا راضيا بما رسموه لك بل قد تكون مبتهجا سعيدا وأنت اسمٌ مجرور بحبل من حرير الإعلام الآسر الذي يدغدغ عنقك بنعومة ملمسه.

ومن منّا – سوى النزر اليسير جدا من متلقّي الاعلام – من يمتلك حرية التحليل ويكون بمقدوره تحليلَ كلّ حدثٍ او موضوع ما أو خاض تجارب شخصية او تراءت امامه احداث مماثلة مسبقا بحيث يقدر على تكوين قناعة مغايرة مدعمة بثوابت وخلاصات رأيٍّ استنبطها المتلقي غير القناعة التي حددها الاعلام له مسبقا؟!

وهل كل متلقّـي الاعلام لديهم القدرة النقدية والتحليلية التي تجعلهم يفلتون ويتخلصون من مستويات التأطير المعدّة سلفا بانتقائية مدروسة ومنتقاة وكثيرا ماتغازل النفس البشرية لكسب ودّها، ولكن احيانا بمكر وخديعة مثل غانيةٍ تتظاهر بالحب لكنها تبتغي شيئا اخر ابعد مايكون عن طهارة ذلك الحبّ السامي.

فالاعتقادات الراسخة هي العدو اللدود للحقائق وقد تكون اكثر خطورة حتى من الأكاذيب والأضاليل وهذا مافعله الاعلام الاميركي ومن وقف الى جانبه اثناء احتلال الولايات المتحدة للعراق عسكريا حينما تمّ التركيز على المعارك التي جرت في مطار بغداد الدولي قبيل التاسع من نيسان /2003 وكأنّ احتلال العراق كلّه يختزل في المطار وحده.
وهنا عملَ الاعلام على فرض فكرة خادعة لعب على ترسيخها بحنكةٍ وفي منتهى الذكاء والحذلقة والمهارة في تدوير العقل المتلقي باعتبارها فكرة لابد من الاقتناع بها وفرضَها كتحصيل حاصل ورؤية غير قابلة للنقاش مفادها ان الانتصار بهذه المعركة ( معركة المطار ) يعني سقوط الدكتاتورية كلها؛ وبالفعل نجح هذا التأطير في تشتيت اي تحليل واية رؤيا سياسية او عسكرية تقف بالضد مما رسمه الاعلام الاميركي في هذا الحدث الذي غيّر مجرى كل الاحتمالات الاخرى.

من جانب اخر هناك دواعٍ ايجابية لابد من اللجوء الى التأطير باعتباره بديلا لابد منه للفوضى الاعلامية والطيش العائم الان في الصحافة وعموم الميديا، ولنضرب مثالا عما حدث في العراق ايضا بعد التغيير العاصف في نيسان /2003 كوني عشت هذا المعترك وقتذاك حيث انتشرت الفوضى الإعلامية بشكل لامثيل له اذ شاعت الصحافة الصفراء والخرقاء والعشواء بشكل مهول وتسابقت قنوات الميديا الكثيرة في طرح خلطات عجيبة طغى فيها الغثّ قبل السمين وإذا بنا نرى المئات من المطبوعات تزاحم الارصفة وتتعثر بها اقدامنا وتكتظ حتى في اسواق الخضروات والبسطات الرخيصة ودكاكين العطارين فلو اشتريت علبة سكائر سيعطيك البائع صحيفة مجانية معها حتى امتلأت حاويات النفايات بها وهنا لابد اللجوء الى التأطير وانتقاء الرؤى والقناعات الاقرب للتصديق والإقناع.

هكذا يعدّ الخبر في مطابخ الاعلام فهناك طهاة ماهرون يهيئون لك المادة الصحفية او التقرير الاعلامي مطعّم ببهارات شهية مستساغة؛ وماعليك الاّ ان تختار واحدة من عدة أطباق منتقاة لك بارزة وموضوعة بعناية أمام مرآك، فتهضمها وتتقبلها بشهية بينما هناك اخرون -- على قلّتهم -- لن تنطلي عليهم تلك الجاذبية ولا يستسيغون ما بدا امامهم رغم كونه جاذبا يسيل له اللعاب لأنهم ذوو عقول تستنتج ولا ترضخ للمغريات ويعاندون الاتّباع والذيلية والإمّعة ويعرفون تماما ان البِطنة واشتهاءاتها تُذهِب الفطنة.


[email protected]