تقع ديربورن خارج ديترويت مباشرة، وتوفر للمسافرين فرصة فريدة لتناول وتجربة المطبخ الشرق أوسطي بينما يستكشفون كيف ساهم العرب الأمريكيون في تشكيل سكان المدينة.
بعد ظهر يوم أحد وفي مخبز شاتيلا في ديربورن بولاية ميشيغان، كان صف من الناس مزدحمين حول واجهات محلات تعرض حلوى البقلاوة، وأكوام من المشبك (نوع من أنواع الحلوى المصرية) والماكارون على الطريقة اللبنانية ذات اللون البني الذهبي. ومع اندفاع عمال تلك المحلات لتلبية الطلبات، تحدث السكان المحليون مع بعضهم البعض بحماس بمزيج من اللغتين العربية والإنجليزية، وقال أحدهم لصديقه مازحا: "هذه هي خططي لتناول طعام صحي!".
من نواحٍ عديدة، شاتيلا هي صورة مصغرة لمدينة ديربورن. بدأ هذا المخبز على يد مهاجر لبناني في السبعينيات، وهو محاط بعشرات المطاعم والشركات والأسواق المملوكة للعرب الأمريكيين ومحلات الجزارة الحلال وصالونات تصفيف الشعر والمساجد. تصطف اللافتات المكتوبة باللغتين العربية والإنجليزية على أكبر شارعين في ديربورن - شارع وارن وشارع ميتشيغان - وعلى مدى القرن الماضي، ازدهرت هذه المدينة الواقعة خارج ديترويت والتي طالما عُرفت كمركز لتصنيع السيارات لشركة فورد موتور، لتصبح أكثر الأماكن العربية في أمريكا.
زرقاء اليمامة: قصة عرّافة جسدتها أول أوبرا سعودية
آلام المسيح: كيف حافظ أقباط مصر لقرون على عادات وطقوس أقدس أسبوع ديني في حياتهم؟
أولمبياد باريس 2024: كيف غيرت مدينة الأضواء الأولمبياد بعد 100 عام من استضافتها آخر مرة؟
في عام 2023، أصبحت ديربورن أول مدينة ذات أغلبية عربية في الولايات المتحدة. وتعد المدينة التي يبلغ عدد سكانها 110.000 نسمة موطنا لكل من المتحف العربي الأمريكي الوطني وأكبر مسجد في أمريكا الشمالية. إنها واحدة من المدن الأمريكية القليلة التي عادة ما يكون عمدتها مسلما وعربيا، وهي أول مدينة أمريكية تجعل العيد عطلة مدفوعة الأجر لموظفي المدينة وواحدة من الأماكن القليلة في البلاد التي يُسمح فيها بالأذان للصلاة عبر مكبرات الصوت في المساجد. إنها، كما قال لي أحد السكان المحليين، "الوطن الأم البعيد عن الوطن الأم".
واليوم، تقدم المدينة للمسافرين فرصة مغرية لتناول الطعام في طريقهم عبر الشرق الأوسط، إذا جاز التعبير، مع استكشاف كيف ساهم العرب الأمريكيون في تشكيل المدينة والأمة.
وفقا لجاك تيت، أمين متحف ديربورن التاريخي، لم تكن المدينة أكثر من مجرد أرض زراعية ذات كثافة سكانية منخفضة حتى أوائل القرن العشرين. تغير كل ذلك في عشرينيات القرن العشرين عندما قام صانع السيارات وقطب الأعمال هنري فورد بنقل المقر الرئيسي لشركة فورد للسيارات من هايلاند بارك على بعد 10 أميال إلى ديربورن.
وقال تيت "لقد كان مجتمعا صغيرا هادئا في تلك المرحلة. وبمجرد افتتاح المصنع الجديد، كان الناس يأتون من جميع أنحاء الولايات المتحدة، ومن جميع أنحاء العالم للعمل لدى السيد فورد. كانت تلك البداية الكبيرة لسكان الشرق الأوسط هنا".
عندما بدأ فورد في تصنيع سياراته الشهيرة موديل تي T في عام 1908، كان بحاجة إلى أشخاص لتصنيعها. كان رجل الصناعة، الذي كان معروفا بسياساته العنصرية في التوظيف تجاه الأمريكيين من أصل أفريقي ومعاداة السامية تجاه اليهود، يتطلع إلى المهاجرين الشرق أوسطيين الوافدين حديثا إلى منطقة ديترويت من أجل العمل. وسرعان ما تدفقت موجات من العمال من المناطق التي يغطيها الآن لبنان وسوريا والعراق واليمن والأراضي الفلسطينية إلى ديترويت الكبرى بحثا عن هذه الوظائف الجديدة ذات الأجور المرتفعة. حتى أن هناك أسطورة محلية مفادها أن فورد أخبر ذات مرة بحارا يمنيا في أحد الموانئ أن مصنعه كان يدفع للعمال الراتب السخي آنذاك وهو 5 دولارات يوميا، ما دفع هذه الموجة من اليمنيين وغيرهم من الشرق الأوسط للقدوم إلى المنطقة.
بحلول أوائل العشرينيات من القرن العشرين، كان غالبية العمال في خط تجميع السيارة فورد من موديل تي T من أصل عربي. وعندما انتقل فورد إلى ديربورن، تبعه العديد من موظفيه. وهذا لم يحول المدينة من قرية صغيرة تسكنها 2400 شخص إلى المقر الرئيسي لأكبر موقع صناعي في العالم فحسب، بل مهد الطريق أيضا لديربورن لتصبح موطنا لأكبر تجمع للأمريكيين العرب في الولايات المتحدة. وفقا لتعداد عام 2020، فإن 54.5 في المئة من سكان المدينة البالغ عددهم حوالي 110.000 نسمة من أصول شرق أوسطية أو شمال أفريقية.
وفقا لماثيو جابر ستيفلر، مدير مركز السرديات العربية، فإنه مع انتقال المزيد من العرب والأمريكيين العرب إلى ديربورن على مر العقود، أنشأوا شبكة مجتمعية شجعت الآخرين على أن يحذوا حذوهم. "بدأت عيادات الأطباء تفتح أبوابها، والمطاعم، ومحلات البقالة - لذلك أصبح هناك جالية كبيرة. وبعد ذلك، ولسوء الحظ، في البلدان الأصلية - وخاصة لبنان، واليمن، وفلسطين، والعراق - كانت هناك اضطرابات مستمرة - حرب أهلية، وغزو عسكري أمريكي - استمرت في إجبار الناس على الهجرة، لذا، استمرت ديربورن في استقبال أشخاص جدد لأنه كان هناك بالفعل أشخاص من تلك البلدان".
وكانت القصة مماثلة مع عائلة أماندا صعب. ولدت الطاهية الأمريكية اللبنانية ونشأت في ديربورن بعد أن هاجر والداها إلى هناك في السبعينيات كطفلين. مثل كثيرين آخرين، انجذب الآباء إلى الوعد التي حصلوا عليها بالتوظيف في مصانع السيارات بأجور جيده، واستدعتهم المدينة لأن أفراد أسرة الآخرين كانوا هنا بالفعل.
قالت أماندا "كانت ديربورن دائما بمثابة المنارة والمركز والمعقل، كل الأشياء التي تربطنا حقا بالمجتمع والعقيدة بالنسبة لي موجودة في ديربورن".
وفي عام 2015، كانت أماندا أول امرأة مسلمة محجبة تتنافس في البرنامج التلفزيون ماستر شيف MasterChef USA. وردا على الحرب بين إسرائيل وغزة، أسست تجمعا يسمى "شيفات من أجل فلسطين"، وهي سلسلة تضم بعض كبار الطهاة في المنطقة يجتمعون معا لجمع الأموال لدعم صندوق إغاثة الأطفال الفلسطينيين والجمعية الطبية الفلسطينية الأمريكية. وكما أوضحت، نظرا لأن الكثير من السكان جاءوا إلى ديربورن بحثا عن حياة أفضل بعد معاناة الصراع في بلدانهم الأصلية، فإن المدينة لم تكن بمثابة ملجأ أمل للأمريكيين العرب فحسب، بل أيضا نظام دعم لأولئك الذين عانت عائلاتهم في الخارج من مشاكل طويلة. قالت أماندا: "ديربورن هي واحدة من أكثر المجتمعات مضيافة ولطفا وكرما".
اليوم، ربما يكون الوجود العربي الأمريكي القوي في ديربورن محسوسا بقوة أكبر في مشهد الطعام، حيث يتدفق عشاق الطهي من جميع أنحاء الغرب الأوسط إلى العديد من متاجر البقالة والمقاهي والمطاعم الشرق أوسطية.
وأضافت اماندا قبل أن تذكر بعض الأماكن المفضلة لديها: "إن ديربورن هي مغامرة طعام بحد ذاتها".
لتناول وجبة الفطور والغداء، تقترح مطعم الطيب، وهو مكان شهير يقدم مأكولات الإفطار اللبنانية المنزلية مثل الفول والفاصوليا المطبوخة الطازجة والحمص، وكذلك طبق الحمص مع ما تختاره من اللحم البقري المفروم أو اللحم البقري، وفتة الطحينة (الحمص المغطى بالزبادي بالثوم والطحينة وكسرات الخبز المقلي واللوز المحمص والكاجو) تقدم مع لحم البقر، وغيرها من المقبلات المفضلة.
أيضا تتوفر الشاورما بكثرة في ديربورن، لكن المفضل منها لأماندا هو شاورما الدجاج مع الخبز الفرنسي في مطعم تهامة في شرق ديربورن. يشتهر مخبز شاتيلا بالبقلاوة - حيث أعلنت إحدى كاتبات مجلة بونا بيتيت Bon Appetit ذات مرة أنها أفضل بقلاوة تذوقتها على الإطلاق - على الرغم من أن أماندا توصي أيضا بالفستق "المذهل" وآيس كريم القشطة (كريمة متخثرة على الطريقة العربية).
ولتناول وجبة العشاء، تقترح أماندا مطعم بوتشرز غيريل Butcher's Grille، وهو مطعم لحوم غير رسمي يضفي لمسة عصرية على المأكولات الشرق أوسطية التقليدية. كما أنها تحب أسياخ اللحم المشوي. مضيفة أن "الحمص جيد جداً!" هناك.
وبين تناول الطعام في طريقك عبر ثقافة الشرق الأوسط في ديربورن، هناك الكثير مما يمكنك رؤيته أيضا. في عام 2005، افتتح المركز الإسلامي الأمريكي مسجدا بمساحة 120 ألف قدم مربع على طريق فورد، على بعد ميلين فقط من المقر الرئيسي لشركة فورد للسيارات. وبالإضافة إلى كونه أكبر مسجد في أمريكا الشمالية، فهو أيضا أقدم مسجد شيعي في الولايات المتحدة، حيث يتسع لـ 1000 شخص. كما أنه يرحب بالناس من جميع الأديان، ويمكن للسائحين التجول في باحاته والاستمتاع بقباب المسجد الذهبية ومآذنه الشاهقة التي يبلغ ارتفاعها 110 أقدام والخط الإسلامي المزخرف بداخله.
وفي الطرف الجنوبي من ديربورن، فإن الجمعية الإسلامية الأمريكية مفتوحة أيضا للجميع. بنيت عام 1937 وتمت توسعتها على مر السنين لتشمل قاعة تستضيف المحاضرين الضيوف في عطلة نهاية الأسبوع، وكانت أول مسجد في الولايات المتحدة يُسمح له ببث الأذان عبر مكبر الصوت.
يعتبر الإيمان والعقدة جزءا أساسيا من الحياة بالنسبة للعديد من المقيمين العرب الأمريكيين في ديربورن، لكن ليست هذه هي القصة بأكملها. وهذا ما يهدف المتحف الوطني العربي الأمريكي إليه. يصف المتحف نفسه بأنه "المتحف الأول والوحيد من نوعه في الولايات المتحدة المخصص لتسجيل التجربة العربية الأمريكية"، ويروي المتحف قصص الهجرة العربية الأمريكية من خلال معرض "القدوم إلى أمريكا" ويعرض المساهمات العربية الأمريكية البارزة في المجتمع الأمريكي. وبالإضافة إلى صالات العرض الأساسية والفعاليات السنوية مثل مهرجان الفيلم العربي (15-19 مايو 2024)، كشف المتحف أيضا عن حديقته "الحديقة" التراثية في عام 2023.
وعلى السطح، أشارت شذى نجم، إحدى مؤرخات المجتمع في المتحف، إلى النباتات في مراحل مختلفة من النمو، من أشجار العنب الصغيرة التي تتسلق الأسلاك المعدنية إلى البصل المصري القوي الذي حُصد مؤخرا. وقالت إن الحديقة، التي ستفتتح أبوابها لهذا الموسم في 8 يونيو/ حزيران، أُنشئت جنبا إلى جنب مع القصص التي كانت تجمعها لمجموعة التاريخ الشفهي بالمتحف، والتي يصف الكثير منها تجارب الناس في مغادرة أوطانهم.
وقالت "أعتقد أن إحدى أفضل الطرق للتواصل مع الوطن هي من خلال النباتات. إن زراعة الأطعمة والأعشاب التي أُحضرت من الوطن لزراعتها هنا يشبه إنشاء منزل جديد وبيئة جديدة تشعر أنها مألوفة بالنسبة لك".
وأضافت شذى إن هذه القصص الشفهية ترسم صورة أكمل للحياة في الولايات المتحدة، كما هو الحال بالنسبة للعرب الأميركيين في كثير من الأحيان، "ففي بعض الأحيان يُسرد الكثير من القصص لنا بدلا من أن نقوم نحن بسردهاا". لكن في ديربورن الأمر مختلف.
وختمت بالقول "أنت مع أشخاص مألوفين لك يشبهونك ويتشاركون معك في ثقافتك، ربما ليس من نفس البلد، ولكن لديهم الكثير من أوجه التشابه معك. كل هذا يخلق إحساسا جديدا بالوطن والتواجد في مكان جديد وإنشاء منزل جديد جميل. ربما لم يكن مقصودا أن ينتهي الأمر بالجميع هنا، لكننا حققنا أفضل ما في الأمر ومن هنا جاءت عبارة "العرب الأمريكيون"، فنحن نشعر بالارتباط بكلا المكانين".
التعليقات