بدأ الباحثون مشروعًا جديدًا للكشف عن الطريقة التي يعمل من خلالها في خلق إنسان على قيد الحياة من خلال الوصول الى دليل تعليمات الجينوم البشري، ويعتقد كثير من العلماء أن تلك الجهود ستقود إلى الكشف عن طرق علاجية جديدة للأمراض المميتة ومن بينها السرطان، وربما الاضطرابات النفسية مثل فصام الشخصية.

أشرف أبوجلالة من القاهرة: بعد مرور ما يقارب من عشرة أعوام على مساهمة مشروع الجينوم البشري في إزاحة الستار عن البيانات الأساسية للحياة، بدأ الباحثون مشروعًا جديدًا للكشف عن الطريقة التي يعمل من خلالها في خلق إنسان على قيد الحياة. ففي الوقت الذي سبق وأن تمكن فيه المشروع من تحديد ما يقارب من 25 ألف جين ضروريين لخلق إنسان معافى، لم يفلح في الكشف عن أي شيء بخصوص الطريقة التي تمتزج من خلالها تلك الجينات لتخليق كل شيء بدءًا من القلوب والأدمغة ونهاية ً بالأرجل والأكباد.
وقد قام الباحثون الآن في كاليفورنيا بنشر ما يمكن اعتباره على نحو فاعل quot;أول دليل تعليماتquot; يُُظهر الطريقة التي تُنَسق من خلالها الجينات داخل الخلايا ndash; وهي العلامة الفارقة التي تبشر بإحداث ثورة في فهم العلماء لتطور البشرية وكذلك الطريقة التي قد تسير فيها على غير ما يرام أحيانًا. ويعتقد كثير من العلماء أن تلك الجهود ستقود إلى الكشف عن طرق علاجية جديدة للأمراض المميتة ومن بينها السرطان، وربما الاضطرابات النفسية مثل فصام الشخصية. ومن المتوقع أن يسلط العمل البحثي الجديد الضوء على الدراسات الشاذة التي كشفت عن أن الحياة التي يعيشها الأشخاص اليوم قد يكون لها انعكاسات لافتة على صحة وسلوكيات الأحفاد.

ففي واحدة من تلك الدراسات، وجد الباحثون أن الأشخاص الذين سبق لهم خوض تجربة التدخين عندما كانوا صغارًا يكبرون إلى أن يصبح لهم أحفاد يصلون سن البلوغ بشكل مبكر. فيما أظهرت دراسة أخرى أن النظام الغذائي للأفراد يؤثر في الطريقة التي يحرق من خلالها أحفادهم الطعام. هذا ويعرف العلماء منذ فترة طويلة أن كافة الخلايا تقريبًا الموجودة في الجسم تمتلك التركيبة الوراثية نفسها. ويرجع الاختلاف ما بين خلية في القلب وخلية في المخ إلى أي الجينات التي تُشغل أو توقف بداخلها. هذا وتسيطر على تلك العملية تبديلات كيماوية تلتصق بالجينات وتتغير مهما كانت درجة نشاطها.
وعلى مدار عقد كامل من الزمن، حاول العلماء فك شفرة ما يطلقون عليه quot;الإپيجينومquot; البشري (the human epigenome )، أو نمط التبديلات الكيميائية في جميع المئتي نوع من أنواع الخلايا البشرية. وفي البحث الجديد، قام طاقم بحثي بقيادة جوزيف إيكر، من معهد سالك في لاجولا (كاليفورنيا)، بدراسة الجلد البشري والخلايا الجذعية لإنتاج أول خريطة كاملة للإپيجينوم البشري. وبمقارنة ذلك بإبيجينومات الخلايا المريضة، سيتمكن الباحثون من تحديد الطريقة التي يؤدي فيها الخلل الذي يصيب الإپيجينوم إلى الإصابة بمختلف الأشكال السرطانية وغيرها من الأمراض.
وقال إيكر في ورقته البحثية التي نشرت أخيرًا في مجلة الطبيعة :quot; ستكون تلك المعرفة قيِّمة للغاية بالنسبة إلى فهم أمراض من بينها السرطان وربما الاضطرابات النفسية كذلك. وإلى الآن، لا نعرف الطريقة التي يتغير بها الإپيجينوم أثناء عملية الشيخوخة أو الطريقة التي تؤثر فيها البيئة أو النظام الغذائي الذي نتبعه على الإپيجينومquot;. وقد أشارت دراسات بحثية سابقة إلى أن التغييرات التي تشهدها بيئتنا ( بدءًا مما نأكله وانتهاء بما نقوم باستنشاقه ) من الممكن أن تصيب الإپيجينوم بالتلف. وذلك هو الأمر الذي يمكن أن يقدم تفسيرًا لطريقة عمل الجينات، وتسببها في إحداث مجموعة منوعة من الظروف المرضية. وقال ريان ليستر، مؤلف بارز في دراسة إيكر :quot; ما بحوزتنا الآن يُعَدّ مَرجَعاً. والشيء الأكثر أهمية الآن لباقي المجموعات هو رسم خرائط لإپيجينومات الخلايا السرطانية ومقارنتها بخلاياناquot;.

وفي الوقت الذي تمكنت فيه الشركات الدوائية بالفعل من تطوير عقاقير يمكنها التعامل مع الإپيجينوم، سيساعد العمل البحثي الجديد العلماء على تطوير علاجات بشكل أكثر دقة. وفي السياق ذاته، تنقل صحيفة الغارديان البريطانية عن ستيفان بيك، أستاذ علم الجينوم الطبية في جامعة لندن، قوله :quot; نعمل منذ سنوات لتحريك مشروع الإپيجينوم، وهو ما تحقق لنا في نهاية المطاف. ومن المثير أن تبدأ الثمار الأولى لهذا المشروع في الظهورquot;. وقد ركَّز بيك في بحثه الجديد على الطريقة التي تقود بها التغييرات التي تحدث للإپيجينوم إلى الإصابة بالسرطان، علما ً بأن البشر يحملون عدداً من الجينات التي توقف نمو الأورام الخبيثة، لكن الاضطراب الذي يصيب الإپيجينوم من الممكن أن يُخمِد تلك الجينات بصورة فعَّالة، ما يزيد من احتمالات إصابة الفرد بالسرطان.
وقالت ليندا بيرنبوم، مدير المعهد الوطني لعلوم الصحة البيئية، الذي يعد جزءا ً من معاهد أميركا الوطنية للصحة، التي ساهمت في تمويل العمل البحثي الجديد :quot; لقد نضج العلم لدرجة أنه قد بات بإمكاننا رسم خريطة لإپيجينوم خلية من الخلايا. وهو ما سيساعدنا على فهم أفضل للطريقة التي تختلف بها خلية مريضة عن خلية عادية ( سليمة )، الأمر الذي سيعزز من فهمنا الكامل لمسارات الأمراض المختلفةquot;.

دور البيئة في المسألة
يقول الباحثون :quot;إن كانت الشفرة الوراثية كلوحة مفاتيح، فإن الإپيجينوم سيكون عازف البيانو. وتصبح الحبال الصوتية المختلفة نموذجا ً لأنواع الخلايا المتنوعة، وحينها يجب عزف جميع النوتات الموسيقية بصورة تامة لخلق إنسان معافىquot;. وقد تم الربط بين التلف الذي يصيب الإپيجينوم ndash; نمط المواد الكيميائية الذي يتحكم في جيناتنا - وبين ظروف طبية متنوعة مثل الربو وانفصام الشخصية ومرض السرطان. ويمكن أن يصاب الإپيجينوم بخلل بسبب التدخين، والشيخوخة، والتوتر، وتلوث الغلاف الجوي، وكذلك ما نشربه ونتناوله، ومجموعة من العوامل البيئية الأخرى. وتقول الغارديان إن هناك بعض الأدلة التي تشير إلى أن البيئة تتسبب في إحداث تغييرات بالإپيجينوم، تجعل الأشخاص أكثر عرضة للإصابة بالربو. ويتم التحقق الآن من الدور الذي تلعبه تلك التغييرات في ظروف أخرى، مثل أمراض القلب، والفصام، والتوحد، والنمو غير الطبيعي والتطور، ومرض الجلوكوما الذي يعرف عند عامة الناس بالماء الأزرق.
ويُعتقد أن تغييرات الإپيجينوم تشكل عاملا ً رئيساً في تحديد مدى أخطار الإصابة بالسرطان. وبينما تساعد كثير من الجينات على منع نمو الأورام، يمكن للاضطراب الذي يصيب الإپيجينوم أن يقوم بإلغاء تلك الجينات الوقائية عن طريق الصدفة. وتلفت الصحيفة كذلك إلى قيام شركات الأدوية بتطوير بعض من الطرق العلاجية التي تعيد تشكيل المعلومات الخاصة بالإپيجينوم في الخلايا المسرطنة، ما يجعلها تعود مرة أخرى إلى وضعيتها السابقة كخلايا سليمة. ويُتوقع أن يستفيد العلماء من فهم الجينوم البشري بأكمله في تطوير عقاقير قادرة على تقليل خطر الإصابة بالسرطان واحتمالية عكسه حتى إذا أصبح متوطدًا.