كتب ممدوح رزق: لأنني لن أنتحر طبعا كان عليّ إذن أن أبحث عن طريقة أخرى للتخلص من الحياة غير الموت .. أجلس الآن داخل شقتي في الفترة الفاصلة بين العصر والمغرب ـ وقتي المفضل من اليوم منذ الطفولة .. حين تكون بمفردك وتنتهي من قراءة كتاب كـ ( التاريخ الكوني للخزي ) لبورخيس أو تشاهد وتستمع لأغنية كـ ( moonlight in Vermont ) لفرانك سيناترا وإيلا فيتزجرالد فمن الطبيعي جدا أن تشرد فجأة وتقرر بداخلك أن العزلة جميلة الآن لدرجة أن تتمنى بقوة العثور على طريقة تبقيك رغم كل شيء بالبيت وتمنع أي أحد من الاتصال بك .. طريقة تضمن حمايتك الكاملة من الاحتياج للخروج والتعامل مع الآخرين حتى تصبح منسيا بالتدريج .. أشعر في هذه اللحظة أنني بلغت قمة الاكتفاء بذاتي ولا أريد أن أرتكب أي أخطاء أخرى لو تجاوزت باب الشقة أو حتى طللت برأسي من النافذة .. أعرف أن بالخارج ركام هائل يخصني من الحكايات المتخمة بالأشخاص والأحداث السيئة .. ركام بدأ تشييده في لحظة مجهولة بالنسبة لي لا يمكنني تحديدها أبدا ولكنني أعرف أنها حدثت قبل مجيئي للحياة حينما كان السابقون في أسرتي يعتنون جيدا بالميراث الذي سيترك لي بعد أن يرقد أغلبهم تحت الأرض وبعد أن يكون هذا الميراث قد أخذ وقته الكافي جدا في النمو والثبات والتوحش .. في الشارع ووسط البشر لا أعتبر نفسي سوى مجرد استمرار عادي لتاريخ لم يكن جميلا .. التاريخ الذي أشعر بيقين أن الغرباء قبل الأقارب والأصدقاء يعرفونه تماما ويحتفظون به بإخلاص تام وتجرحني به عيونهم وابتساماتهم والفراغات المائعة بين كلماتهم العادية لي .. منذ البدايات المبكرة لشبابي وحتى الآن وأنا أحاول أن أفعل كل ما في وسعي لوضع حد أو البدء من جديد أو صنع انحراف ما بأي شكل للمسار التقليدي المعتاد الذي أجبر القدر أسرتي على اتخاذه ودائما كانت النتيجة هي نجاحي الباهر في تدعيم هذا المسار البائس بمنتهى الكفاءة كإبن بار لا يمكن أن يكون انتماءه لأسرته محل شك .. لماذا حين أفكر في نفسي وفي أسرتي وأتفحص كل ما أقدر على استعادته من الذاكرة أعتبر الناس جميعهم وبلا استثناء ملائكة ناصعي البياض ولا يشوب صفاء ماضيهم وحاضرهم شائبة وأننا فقط كنا محتكري الشر الوحيدين والمفروض عليهم بالضرورة ألا يتوقفوا أبدا عن الشعور بالخجل حتى مع تعاقب الأجيال وتغير الزمن وتبدل المكان ؟ .. لدي ما يكفيني جدا عن الناس والذي يجعلني أعتبر أسرتي بالمقارنة بهم عادية للغاية بل وأقل من حيث كل شيء : المشاكل الكبيرة التي لم تهدأ خاصة بين أبي وأخي الأكبر والطباع السيئة لدرجة المرض التي كان والدي مصابا بها وبالطبع نقل تأثيراتها السلبية إلى زوجته وأبنائه .. الحروب والصراعات والخصامات بيننا كأشقاء لدرجة أنني طوال ما يقرب من عشرين عاما عشتها في منزل الأسرة منذ لحظة ميلادي وحتى وفاة أول فرد بها وهو شقيقي الأكبر لم أرى شخصين جالسين معا ويتبادلان مجرد حديث ودي أو حتى كلام عادي إلا نادرا .. كذلك الشجارات الهيستيرية المتواصلة بين أبي وأمي وإخوتي التي طالما جمّعت جيران العمارة في بيتنا والعابرين في الشارع أسفل شرفتنا .. أيضا أسرار الماضي التي لم أحاول استفزاز غموضها والكشف عنها كي لا تزيد آلامي ولأنها في حقيقة الأمر لا تهمني لكونها لا ترتبط مباشرة بتجربتي الفعلية داخل السياق الأسري .. كذلك أنا : حساسيتي الشديدة منذ الصغر وحتى الآن من دعابات الآخرين الثقيلة التي تطال الكرامة .. عدم قدرتي وأنا طفل على مجاراة زملائي في المدرسة من أصحاب المواهب التي كانت تبدو لي خرافية والتي كانوا يتمتعون بها : القوة الجسدية .. الجرأة .. الدهاء .. الشخصية القوية .. الحصانة ضد الخدع والمقالب .. بذاءة اللسان اللامحدودة والبراعة في تطوير قاموس الشتائم بشكل متواصل .. القدرة الفريدة على مزج الأذى بالكوميديا حيث يتعطل فجأة ورغما عنك تعاطفك مع الضحية وتزداد بشكل عجيب رغبتك الحقيقية في الضحك مع ارتفاع مستوى الشر أو العنف .. كان انعدام وجود هذه المواهب في شخصيتي دافعا قويا لأن أكون موضوعا دائما للسخرية خاصة مع محاولاتي اليائسة للحصول عليها أو لادعاء أنها لا تنقصني والتي كانت ترسّخ طوال الوقت قناعة باقي التلاميذ بكوني مجرد مغفل مدلل أسريا يريد ـ كأي أحمق ـ أن يعيش دورا لا يناسبه ولهذا فسذاجته كنز لا يفنى .. حتى بعد أن تجاوزت المراحل الدراسية لازلت أجلب حتى الآن لروحي مهانة التهكم وجروح الاستهزاء على يد الآخرين .. الآخرون الذي يمنحونني رد الفعل المناسب من وجهة نظرهم لسعيي المحموم للحصول دائما على تقدير الذات وأيضا للتباهي والفخر المعلن بنفسي لدرجة الفضيحة أحيانا وكذلك لاختبائي المكشوف وراء قناع هزلي من الصلابة والسخرية والخبث وعدم الاكتراث والفساد الإخلاقي .. رغم كل هذا يمكنني ببساطة أن أنتزع ذهنيا أي شخص لا ينتمي لأسرتي من بين المخلوقات الكثيرة التي أعرفها وأنا مغمض العينين ودون أن أحتاج وقتا أو جهدا كبيرا في تشريح حياته سأعثر على ما يقوي تأكدي البديهي من أنه ليس لدي ما يجبرني على الشعور بالإحراج .. حسنا .. لكن لماذا لا يفارقني الغضب والحسرة على نفسي وعلى أسرتي وعلى كل سنواتنا القديمة ؟ .. لماذا أشعر دائما أن الماضي لم يكن سوى لعنة أبدية لن يمكنني محوها ولا التحرر منها وأنها تمنعني من أن أعيش هادئا كبقية الناس ؟!! .. حتى هذه اللحظة لم أفهم كيف ينجح الآخرون في قتل الوحش الذي يطاردهم من الخلف عبر الزمن ويصدّرون للعالم بمنتهي الثقة إيمانهم بالقدرة على عيش حياة جديدة كأن شيئا لم يحدث ؟ .. على الأقل كيف ينجحون في تجاهل هذا الوحش العجوز الذي يزداد شراسة مع تقدم عمره ويتحركون في الدنيا كأطفال مولودين للتو وموقنين بقطيعة حادة مع أي لحظات حزينة فائتة ؟ .. أطفال يفقد كل منهم ذاكرته أولا بأول بحيث لا يمكن لأي ماضي أن يسبب لهم الإزعاج بحضور قاس داخل أعماقهم ويجعل حياتهم متاهة ضخمة ومعقدة من المتاعب والاضطرابات ؟ .. ربما أنا الذي أراهم هكذا فحسب في حين أنهم مثلي غاضبون ومتحسرون على كل ما سبق ويعتبرون أن الماضي لعنة أيضا .. الحياة إذن تنمية لمهارات دفن الذكريات الخانقة في أبعد مقبرة داخل الروح .. المقبرة التي لا يجب أن يعرف الطريق المؤدي إليها إلا صاحبها .. أن تؤلمه هو فقط وألا يشم رائحتها أي أحد آخر حتى لا يزيد الألم .. الآخرون لا يفعلون في النهاية سوى ما أفعله أنا : تنفيذ مهمتك الوجودية في إدعاء أنك غير موبوء بما تخجل منه أو على الأقل أن وباءك الشخصي مهما كان ثابتا بقوة في الذاكرة الجماعية للناس فهو لا يعنيك على الإطلاق ولن يمنعك أبدا من مواصلة الحياة حتى لو كانت هذه الحياة عبارة عن تفاقم متسارع لشدة الوباء .
لا أريد أن أخرج من البيت .. لماذا أخرج ؟ .. البيوت والمحلات والكازينوهات القديمة التي كانت في ( الثمانينيات ) تُهدم بانتظام لتصعد مكانها ناطحات سحاب خجولة تتراص أسفلها مطاعم وكافيهات ومحلات ملابس وأحذية على الطراز الغربي الحديث امتثالا لأمر أثرياء ( اليورو ) الجدد من الريفيين الذين نجوا من الغرق قبل سنوات بعد أن ألقت بهم قوارب الهجرة غير الشرعية بالقرب من شواطيء أوروبا .. أي فراغ يُكتشف بقاءه على كورنيش النيل يخترقه فورا قضيب سكني ممدود من طبيب كبد استفاد تماما من التحالف بين أسلوب النظام الحاكم في تنفيذ الإبادة الجماعية عن طريق الطعام والماء والدم الملوث وبين نتائج أبحاث مضاعفة الأرباح التي تخرج من معامل ومختبرات شركات الأدوية العالمية .. أو من أحد الشيوخ الذين عينتهم آبار البترول السلفية في الفضائيات لاستقبال توبة الفقراء عبر الـ SMS .. أو من ضابط شرطة يقسّم وقته بالتساوي بين حجرات التعذيب وفيلات تجار المخدرات والسلاح وشقق الدعارة التي يديرها أو يحصل على رواتب شهرية منها .. الشوارع محتلة من المحجبات والمنقبات والمخمرات ومن أصحاب اللحى الطويلة الذين يرتدون الجلاليب والسراويل القصيرة ويسيرون بحماس عدائي وهم يفردون صدورهم وعضلاتهم كأنهم في حالة جهاد شرعي عام انتظارا لتحول البشر إلى بدو وكوكب الأرض إلى صحراء جميلة خالية من الكفر .
أريد أن أخرج .. أحلم بيوم كامل أقضيه منذ بدايته وحتى ونهايته بصحبة أخي نمر فيه بسيارته على كافة أماكن الحنين : ما تبقى من بيوت أقاربنا وأصدقاء طفولتنا والمدارس التي تعلمنا فيها والمقاهي والشوارع والمحلات التي مازالت تقاوم الغياب .. أريد أن نتبادل أنا وأخي في كل مكان حكاياتنا عنه بحيث لا يبدأ أي منا كلامه للآخر إلا بكلمة : ( فاكر ؟ ) .. أخي الذي سيضحك كثيرا ويتهمني بالعته قبل أن يتجاهل وينسى سريعا رغبتي هذه إذا ما صارحته بها .. نعم .. من الأفضل أساسا ألا أخطط لاستعادة الماضي بهذا الشكل .. يجب أن أحذر من الاطمئنان لتحقق سعادة استثنائية ناجمة عن تجاوز التذكر العادي إلى التحرك جسديا بشكل مباشر نحو مواطن الذكريات .. حين لا تتمكن من تجاوز التذكر العادي فأنت بالتأكيد فريسة سهلة متاحة طوال الوقت للذهول والتعاسة وحين تتمكن ـ ربما بمعجزة ـ من أن ترجع بنفسك إلى ما تركته منذ طفولتك ولم تعد إليه حتي الآن ومع ذلك تفشل في استرداد الماضي كما كان بالضبط فأنت مجرد جثة مستيقظة .
أنهض لأتجه إلى حجرة النوم .. أرتدي ملابسي وأنا أشعر بالدوار .. أنظر لوجهي في المرآة .. يبدو أنني لن أنتحر ولن أعثر على طريقة أخرى للتخلص من الحياة .. أتجه إلى باب الشقة .. الاستمرار في الدنيا رغما عنك هو بالضبط ما يعنيه أن يظل جبل المكعبات الذي تجلس على قمته يرتفع بك أكثر وأكثر بينما عدم فهمك لما حدث بالأسفل ويواصل الحدوث يزداد بلادة وسادية .. أغلق الباب ورائي وأنزل السلالم .. دفن الماضي والتحسر لفقدانه .. أيا يكن من سأقابله في الشارع أو في المقهى لن أخبره بالتأكيد أنني ربما أكون الوحيد في الكون الذي يعتبر المكعبات لعبة مملة جدا .