إيلاف: تنهض العلاقة الجدلية بين الزمان والمكان من العلاقة الجدلية بين الكائن ووجوده ، لأن عمر الكائن إنما هو طبقات زمنية متراكمة في ذاكرته ، وذاكرته لا تنكشف إلا بتفعيل ذاكرة المكان فيها ، وبالتالي لا يمكننا عزل المكان عن أثر الزمن في تشكيله وفي إضفاء الملامح التي تجعلنا نقرأه بعمق انفعالاتنا ، ورؤانا ، ومن جانب آخر لا يمكن عزل الزمان وأثر علاماته عن المكان الذي يمتص لحظات الزمن ليعيد تشكيلها في عمق الكائن الإنساني بوصفه كائنا يتصل وجوده بالزمان والمكان .
فنحن نترك ملامحنا في المكان ، وهذه الملامح لا نستطيع قراءتها إلا إذا عدنا مرة أخرى إلى المكان لاستعادتها ، وهذه العودة إلى المكان تحكمها حركية الزمن ، ويحكمها أثر الزمن الذي يترك علاماته على ملامح المكان ، وبالتالي يحفّز ذاكرة الكائن ويضعها في مقام استعادة أسرارها في المسافة الواصلة بين الزمان والمكان ، حيث الكائن زمكاني الوجود .
وإذا كان الزمكان في الإبداع تشكله اللغة التي تمثل للمبدع بشكل عام بيته وفضاءه وحيزه وزمانه واقعه ومجازه ، حلمه ووهمه ، وهي التي تمنحه المقدرة على تمثيل الأمكنة التي يصنعها الخيال أو يرتب أثاثها المجاز فإن قراءة الزمكان الإبداعي تقودنا إلى تحرير الذاكرة المكانية من إطارها المادي ، وتحرير الذاكرة الزمانية من مسافاتها الكامنة في المكان ، وبالتالي تحرير النص من كينونته اللغوية لحمله إلى مسافات معرفية ومسافات تحدد المقام الجمالي الخاص لهذا النص ، الذي يمثل بشكل من الأشكال تفعيلا لذاكرة المبدع ، وتفعيلا بالتالي لذاكرة المتلقي الذي يستعيد صورا وملامح تشكلت في ذاته من خلال ما يتركه هذا العمل الإبداعي من أثر زمكاني في نفسه .
ومن هنا تأتي أهمية كتاب الدكتور حسين حمودة \' في غياب الحديقة حول متصل الزمان / المكان ، في روايات نجيب محفوظ \' حيث يتناول هذه الظاهرة تناولا عميقا تحليليا مدركا لما تنطوي عليه من أسرار وما تحمل من إحالات لتأويل النص الإبداعي السردي زمكانيا كاشفا العمق الجمالي لهذه الظاهرة وكيفية تجليها في النص السردي ولما لها من خصوصية في أدب نجيب محفوظ الذي يعد بحق ذاكرة مصر المكانية والزمانية حيث كانت أعماله كشفا لجمالية المكان وعمقه الزمني ، وكشفا لتحولات هذا المكان بتحولات الكائن ، وتحولات الكائن بتحولات الزمان ، من خلال رؤية إبداعية قل نظيرها في الأدب الإنساني .
ولعل تحديد المؤلف بحثه في إطار السرد المحفوظي يمنح البحث عمقا فنيا وبعدا تطبيقيا وقراءة تأملية دقيقة تفتح المجال لدراسات وبحوث معمقة في الخطاب الروائي العربي لتتبّع هذه الظاهرة المهمة في الإبداع والتي تعد من البنى الأساسية في أي خطاب إبداعي حقيقي .
يتخذ الكتاب من مقولات ميخائيل باختين النظرية حول مفهوم الزمكان ، إطارا منهجيا لتفكيكها واختبارها تطبيقيا من خلال الأعمال الروائية التي اختارها لنجيب محفوظ ، وذلك لأن مفهوم / متصل الزمان / المكان / ينتسب إلى باختين الذي درس هذه الظاهرة دراسة معمقة كشف خلالها الأبعاد التي تنطوي عليها هذه العلاقة الجدلية . وأهمية تلك مقولات تأتي من كونها ما زالت كما يرى المؤلف ، \' تؤكد نفعها وجدواها ... إذ لا تزال تثبت ـ فضلا عن إحاطتها وعمقها ـ حيويتها وقدرتها على الاستمرار ، مرونتها وقابليتها لأن تغتني بمدلولات متميزة دوما خلال تعرّف واختبار إمكاناتها الثرة في تحليل أعمال روائية وأدبية وفنية عموما ، ومتنوعة تنتمي إلى تجارب تترامى في اتجاهات شتى خارج المجال الثقافي الذي انبثقت منه هذه المفاهيم وتشكلت فيه \' وبالتالي ما تزال قابلة للإضافة والكشف في سياقات أخرى \' ولعل هذه الإضافات التي أشار إليها الدكتور حمودة ، تتأتى من خلال إعادة إنتاج هذه المقولات وتفعيلها في المنجز الإبداعي العربي وبالتالي يأخذ العمل النقدي حالة من الحوار بين الثقافات وحالة من إنتاج المصطلح النقدي بتفاعل تلك المصطلحات مع نصوصنا الإبداعية.
وهذا جانب مهم من جوانب الكتاب الذي يسعى د . حمودة إلى تأكيده محاولا أن يخلق حالة من التأمل العميق للمصطلح وتفعيله في النص الروائي العربي ـ المحفوظي ـ لتأصيل مفاهيم نقدية جديدة ولفتح الباب أمام النقد العربي إلى هذه العملية من التأصيل لأن ذلك هو السبيل الوحيد للخروج من ركودنا النقدي والارتقاء بنقدنا إلى مقام من الخلق والإبداع الإنساني المتجدد .
لذلك يعد كتاب ( في غياب الحديقة) بحثا في حضور الرؤية النقدية العارفة والمدركة لأدواتها ، ويعد ثمرة من ثمار التفاعل الثقافي الذي يفعل الأدوات المعرفية والنقدية ويؤولها تطبيقيا ، حيث يتم استيعابها فنيا في أدبنا الروائي وفي خطاباتنا الإبداعية الأخرى ، لتنهض بتفاعلها حاملة لرؤى جديدة متجددة باستمرار .
يسعى الكتاب من جهة العمل التطبيقي إلى \' استكشاف فكرة واحدة وثيقة بمفهوم الزمكان من حيث تبيّن بعض وجوه حضوره الأساسية في الخطاب الروائي المحفوظي من جهة وتعارف نماذج من مستويات هذا الحضور ومن كيفياته من جهة ثانية ، ومن ثم تلمس مدى انخراطه في موضوعات زمكانية بعينها .. من جهة ثالثة \'
فمن خلال ( بداية وسبعة فصول وبداية أخرى ) يحاول الدكتور حمودة أن يفكك ظاهرة الزمكان ويحللها تحليلا استبصاريا محاولا أن يكشف عن البعد الجمالي والبعد الإنساني لهذه الظاهرة ، ففي الفصل الأول تناول فكرة دمار الإيديلا التي قال بها باختين والإيديلا كما جاء في الهامش \' تشير إلى الحياة الرعوية البسيطة المتصلة بحياة الرعاة التي غالبا ما تنطوي على نوع من علاقات عائلية مطمئنة تتسم بالوداعة والقناعة والرضى .. \'
ليرى بعد اختبار هذا المفهوم في النص الروائي اختبارا دقيقا أنه \' من اختبار لا يزحزح الإيقاع الإيديلي الدوري الثابت في ( زقاق المدق ) إلى انتصار يستوي في حصيلته الهزيمة ـ بفكرة الزمن ، الذي يغير من هذا الإيقاع وربما ينفيه في ( الثلاثية ) إلى تجسيد هذا الإيقاع والتوق إلى تغيير رتابته وثباته في ( أولاد حارتنا ) إلى التساؤل حول حدود هذا الإيقاع ووضعه دائما إزاء القانون الذي يصوغه من مبتدئه إلى منتهاه في ( الحرافيش ) ... يمضي تناول نجيب محفوظ لثبات المكان ومرور الزمن في هذه الروايات الأربع مجسدا مستويات متعددة للعلاقات الزمكانية ورؤى تتطور وتتنوع من عمل لآخر . \'
وتتابع فصول الكتاب في كشفها عن كل ما يتصل بظاهرة الزمكان \' كالحنين إلى البيت القديم في الفصل الثاني حيث يرى أن البيت القديم زمكانيا يعد مكانا مشبعا بالزمن ، فمن خلال موضوعة البيت القديم \' واستعادته يمكن استكشاف مستويات متنوعة للمكان والزمن ، وهذه المستويات يمكن أن تتحقق روائيا بأشكال وطرق تتعدد بتعدد وجوه تناول البيت القديم \'
وبعدما يختبر هذه الموضوعة في روايات نجيب محفوظ كاشفا عن العلاقة بين البيت والكائن التي بينها باشلار في كتابه جماليات المكان ينتقل إلى فصل آخر لمناقشة \' زمكانية الطريق \' التي كما يرى باختين \' تتقاطع في نقطة زمانية ومكانية واحدة الدروب الزمانية والمكانية لمختلف ألوان الناس ـ ممثلي كل الفئات والأوضاع والمعتقدات والقوميات والأعمار \' ليتجه الباحث في الفصل الرابع إلى مناقشة \' زمكانية اللقاء \'المتصلة اتصالا وثيقا بزمكانية الطريق حيث الطريق أفضل مكان للقاءات المصادفة حسب باختين وزمكانية اللقاء كما يرى الدكتور حمودة من أعم موضوعات الأدب والثقافة وكذلك مختلف دائرة الحياة والمعيشة .
بعد ذلك بنتقل الباحث إلى زمكانيات أكثر تحديدا كزمكانية العتبة في فصله الخامس ، وزمكانية الكرنفال في فصله السادس أما في الفصل السابع فيقف عند بعض المفردات الزمكانية كمفردات البيت ـ ومفردات خارج البيت ـ ومفردات الروح ، حيث تناول في السياق الأول ( مفردة المشربية ـ النافذة ـ الشرفة ـ الدهليز ـ السلم ـ البدروم ـ السطح ـ الصورة الثابتة ) وفي السياق الثاني ( مفردة الزقاق / الحارة ـ المقهى ـ الميدان ـ الحي ـ السجن ) وفي السياق الثالث ( مفردة الخلاء ـ الصحراء ـ القبو ـ المقبرة ـ التكية ـ الساحة ـ الحديقة )
ليرى في بدايته الثانية وبعد رحلة من البحث المعمق كشف خلالها عن دلالات الزمكان في روايات نجيب محفوظ \' إن عالم نجيب محفوظ كان قبل هذه الرحلة كما سيبقى بعدها حافل بأسراره التي تجتذب المزيد من محاولات استكشافها ، محتشد بقيمه التي تشجع على مواصلة محاولات تعرفها ، مكتنز بأبعاده الفنية التي تدفع إلى الاستمرار في محاولات مقاربتها بما يجعل كل هذه المحاولات تصل وتترى محاولة تستكمل أخرى ، ومحاولة بعد أخرى . \'
ولعل هذه المحاولة التي حاولها الدكتور حمودة في هذا الكتاب تعد من المحاولات الهامة والتي تشكل إضافة إلى المكتبة العربية بموضوعها وطريقة تناوله وعمق تحليله ، وتفكيكه لظاهرة الزمكان إلى جانب ما يحمل من تفعيل حقيقي للمصطلح النقدي في الكشف عن المنجز الإبداعي العربي .
كتاب ( في غياب الحديقة ) بما يحمل من دقة المنهج ، ووضوح الرؤية وعمق التحليل حري به أن يحمل للقارئ متعة التلقي والفائدة المعرفية .
بهيجة مصري إدلبي
[1] حمودة ، د . حسين ، في غياب الحديقة ـ حول متصل الزمان / المكان ، في روايات نجيب محفوظ ، منشورات مكتبة مدبولي ـ مصر ، الطبعة الأولى



التعليقات