كتبعبدالله بن جمعان الغامدي٭:مع تنامي اهتمام وسائل الإعلام بالقضايا البيئية أصبح الرأي العام أكثر اهتمامًا بإيجاد حلول لمشاكل من قبيل انقراض الكائنات الحية، والتغير المناخي، والتلوث، والعمل على خلق مجتمع مستدام بيئيًا. وقد بدا واضحًا لهذه الدراسة أن عملية التحول إلى التنمية المستدامة لحماية المجال الحيوي للأرض تتطلب جهود كل المجتمع الإنساني فهي مطلب مبرمج ويجب أن ينجز من قبل الجميع وبلا استثناء. ولذا لابد من الانطلاق من النتيجة التي خلص إليها تقرير نادي روما بعنوان The First Global Revolution، الذي تبنى كتَّابه النظرة القائلة إن مشكلة التنمية الحالية هي في حالات عديدة متداخلة وأكدوا فيه أن مشاكل البيئة، والطاقة، والسكان، والتنمية، ومصادر الغذاء، تمثل قضايا متداخلة ضمن إطار المشاكل الكونية، وأن جوهر تلك المشاكل يتمثل في حالة عدم التيقن تجاه مستقبل الإنسانية. ونظرًا لأهمية التداخل بين تلك المشاكل، فإنه لا معنى لمواجهة كل عنصر منها منفردًا، بل لابد من مواجهة متزامنة لكل تلك المشاكل في إطار إستراتيجية دولية منسقة، وأن نجاح أو فشل أول ثورة كونية يعتمد بشكل حاسم على هذا الأمر. فعلى سبيل المثال لا يمكن إيجاد حل ملائم للأزمة السكانية في العالم إلا إذا تم إيجاد حل ملائم لظاهرة الفقر المتفاقمة، كذلك ستستمر ظاهرة انقراض الكائنات الحية من حيوان ونبات بمعدلات مريعة طالما بقي العالم النامي غارقًا في الديون، وفقط عندما يتم وقف تجارة السلاح الدولية يمكن أن تتوفر للعالم الموارد اللازمة لإيقاف التدهور الخطير للمجال الحيوي والحياة الإنسانية. وفي الحقيقة فإنه كلما درسنا وحللنا الموقف كلما زاد إدراكنا في نهاية الأمر بأن المشاكل البيئية المتعددة ليست إلا وجوه مختلفة لأزمة واحدة ووحيدة، هي، بالتأكيد، أزمة إدراك تنبع من حقيقة أن معظم الناس وخاصة المؤسسات الاجتماعية الكبيرة في الدول المتقدمة تتبنى مفاهيم (لم تعد ملائمة لمعالجة مشاكل عالم اليوم) نموذج الحداثة الذي هيمن على الثقافة الصناعية الغربية لقرون من الزمن تمكن خلالها من صياغة المجتمع الحديث وأثر بشكل كبير في كل أنحاء العالم من خلال فرضه لعدد من الأفكار والقيم كالنظرة للعالم كنسق أو نظام ميكانيكي مؤلف من عناصر بناء أولية، والنظرة لجسم لإنسان كآلة، والنظرة للحياة في المجتمع كصراع تنافسي من أجل البقاء، والإيمان بالقدرة على تحقيق تقدم مادي غير محدود من خلال النمو الاقتصادي والتقني.
فضلاً عن ذلك لا يزال كثير من المفكرين الغربيين ينظرون للتنمية المستدامة بطريقة براغماتية لا على أنها وسيلة لتحقيق توازن استراتيجي بين الطبيعة والمجتمع وإنما كمحاولة لإزالة جزء من التوتر في العلاقة المتداخلة بين الحضارة وبيئتها. وبرغم أن مجرد نضال المجتمع العالمي للانتقال من مرحلة النقاش النظري حول الكارثة البيئية إلى مرحلة وضع خطط عملية نحو إزالة ذلك التوتر يمثل جانبًا ايجابيًا، إلا أنه يجب في نفس الوقت الاعتراف بأن غياب فهم أو رؤية واضحة حول التوجه العام لحركة الحضارة في المستقبل يمثل جانبًا سلبيًا من مشروع التنمية المستدامة.
من هذا المنطلق، ترى هذه الدراسة أن العالم بحاجة إلى تنمية مستدامة ومتوازنة تركز مبدأ الوقاية بدلاً من العلاج. وهذا يعني أن الاستدامة ليست فقط مسألة بيئية، بل أنها تتعامل مع التغيرات والمشاكل في المجالات الزراعية والبيئية والاقتصادية والاجتماعية، مما دفع بعض المهتمين بهذا الشأن أن يطلقوا على حركة الاستدامة هذه quot;الثورة البيئيةquot; مقارنة لها بالثورتين الزراعية والصناعية اللتين كان لهما تأثيرًا تاريخيًا هائلاً على الثقافة الإنسانية الكونية[5].
ولذا فإن الاستدامة هي فلسفة برؤية جديدة للبحث عن بناءات اجتماعية، ونشاطات اقتصادية، وأنماط إنتاجية واستهلاكية، وتقنيات تعمل على استدامة البيئة وتمكين الجيل الحالي وتحسين حياته وضمان حياة ملائمة للأجيال القادمة. ولتحقيق ذلك لابد من إعادة صياغة النشاطات الحالية أو ابتكار أخرى جديدة ثم العمل على دمجها في البيئة القائمة لخلق تنمية مستدامة على أن تكون مقبولة ثقافيًا، وممكنة اقتصاديًا، وملائمة بيئيًا، وقابلة للتطبيق سياسيًا، وعادلة اجتماعيًا. ومن ثم فإنه من الملائم البدء مباشرة في تبني عدد من الممارسات الداعمة لاستدامة البيئة، ومنها:
- استهلاك الموارد باعتدال وكفاءة ومراعاة الأسعار الأفضل للموارد، والاستخدام الأكثر كفاءة للموارد، والأطر الزمنية لاستبدال الموارد غير المتجددة بموارد بديلة، والاستخدامات البديلة المحتملة للموارد.
- عدم استهلاك الموارد المتجددة بوتيرة أسرع من قدرتها على التجدد أو بطريقة يمكن أن تؤذي البشر أو النظم الداعمة للحياة على الأرض وخاصة تلك التي ليس لها بدائل.
- التوسع في مجال الاعتماد على الطاقة النظيفة المتجددة كالطاقة الشمسية والطاقة المائية وطاقة الرياح.
- استخدام الفضلات التقليدية كموارد قدر الإمكان مع التخلص منها عند الحاجة وبطريقة لا تضر بالبشر ونظم دعم الحياة على الأرض.
- النضال من أجل التخلص من المبيدات السامة والمخصبات الكيميائية وخاصة تلك التي تعتبر ضارة بالبيئة.
- استخلاص منتجات النسق البيئي كما في الزراعة، والصيد، والاحتطاب بدون الإضرار برأس المال الطبيعي.
- تشجيع المرونة والكفاءة في كل من النسقين الإنساني والطبيعي من خلال تفضيل البستنة المتجددة، والمتنوعة، والمعقدة على تلك المتسمة بالتجانس والبساطة.
- تفضيل الفلاحة التعددية (زراعة الأرض بمحاصيل متعددة) polyculture على الفلاحة الأحادية (الاكتفاء بزراعة محصول واحد) monoculture للإبقاء على خصوبة التربة، فضلاً عن تفضيل زراعة النباتات طويلة العمر على السنوية منها في أنساق الإنتاج البيولوجي قدر الإمكان (كالفرت وكالفرت 2002: 138).
- إعادة تأهيل البيئات المتدهورة قدر المستطاع من خلال وسائل التحكم أو بخلق ظروف ملائمة لعمليات إعادة الإصلاح الطبيعي.
- تشجيع ودعم عمليات إعادة تدوير النفايات.
- تبني مبدأ تغريم الملوث من خلال سن تشريعات عقابية على المستويات المحلية والقومية والدولية.
وختامًا نعود إلى التأكيد على أنه برغم أن مفهوم التنمية المستدامة قد لقي قبولاً واستخدامًا دوليًا واسعًا منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي إلا أن العالم لم ينجح حتى الآن في تبني خطوات حقيقية جادة على طريق الاستدامة الحقيقية نحو التوفيق بين تلك التناقضات بين التنمية والبيئة الناتجة عن نموذج التنمية المهيمن منذ منتصف القرن العشرين مما يجعل البشرية تواجه مستقبلاً محفوفًا بالمخاطر وعدم التيقن. ومن هنا، تخلص هذه الدراسة إلى أن التحول نحو الاستدامة المنشودة لا يبدو ممكنًا بدون حدوث تغير رئيس وجذري على مستوى النموذج المعرفي السائد بعيدًا عن قيم الحداثة، والاستعلاء، والاستغلال المتمركز حول الإنسان باتجاه بلورة نموذج معرفي جديد يتصف بالشمول ولا يتمركز حول الإنسان وينظر للعالم كوحدة كلية مترابطة بدلاً من أن يكون مجموعة متناثرة من الأجزاء، ويمكن من خلاله دمج جهود التنمية المستدامة وجهود الحفاظ على البيئة بطريقة مفيدة للطرفين من أجل الصالح العام للجيل الحالي والأجيال القادمة على السواء، وأن يكون ذلك التحول مصحوبًا باهتمام بالبناءات السياسية الاجتماعية التي يمكن أن تكون أكثر دعمًا للاستدامة. وأخيرًا نرجو أن تسهم هذه الدراسة في استثارة مزيد من النقاش والدراسات حول أهمية الفكر والسياسة في البحث عن طريق ممكن تجاه الاستدامة.معابر .
*** *** ***
قائمة المراجع
أولاً: المراجع العربية
- اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ، 1992.
- بروتوكول كيوتو، 2005.
- مايكل زيمرمان، الفلسفة البيئية: من حقوق الحيوان إلى الإيكولوجية الجذرية، ترجمة معين شفيق رومية، سلسلة عالم المعرفة، عدد 332، الكويت، 2006.
- مايكل زيمرمان، الفلسفة البيئية: من حقوق الحيوان إلى الإيكولوجية الجذرية، ترجمة معين شفيق رومية، سلسلة عالم المعرفة، عدد 333 ، الكويت، 2006.
- بيتر وسوزان كالفرت، السياسة والمجتمع في العالم الثالث: مقدمة، ترجمة عبدالله جمعان الغامدي، مطابع جامعة الملك سعود، الرياض، 2002.
ثانيًا: المراجع الأجنبية
- Agyeman, Julian amp; Others. Exploring the Nexus: Bringing Together Sustainability Environmental Justice and Equity, Space amp; Polity, Vol. 6, No. 1, 2002, 77ndash;90
- Anderson, Terry and Donald Leal, Free Market Environmentalism. San Francisco: Pacific Research Institute for Public Policy, 1991.
- Athanasiou, Tom. Divided Planet: The Ecology of Rich and Poor. Athens: University of Georgia Press, 1996.
- Brown, L.R. The Future of Growthrdquo; in State of the World Report 1998. The Worldwatch Institute, 1998. 01-21.
- Buckingham S. Ecofeminism in the Twenty-First Century. Geographical Journal.170, Issue 2, 2004, 146-154
- Christoff, P. Ecological Modernization. Environmental Politics, Vol. 5, No. 3, 1996, 476-500.
- Coates, J. Ecology and social work: Toward a New Paradigm. Halifax: Fernwood Press, 2003a.
- Coates, J. Exploring the Roots of the Environmental Crisis: Opportunity for Social Transformation. Critical Social Work, 3(1), 2003b, 44-66.
- Connelly, J. and G. Smith. Politics and the Environment: From Theory to Practice, London: Routledge, 1999.
- Dryzek, J. S. The Politics of the Earth: Environmental Discourses. Oxford: University Press, 1997.
- Durning, A. Asking How Much is Enough. In Lester Brown et al. State of the world 1991. New York: Norton, 1991.
- Eckersley R. Environmentalism and Political Theory: Towards an Ecocentric Approach. London: UCL Press, 1992.
- Fowke R and Prasad D, 1996. Sustainable development, cities and local government. Australian Planner 33 61ndash;6.
- French P. W. The Changing Nature of, and Approaches to UK Coastal Management at the Start of the Twenty-First Century. Geographical Journal.170 issue 2, 2004, 116-125.
- Gibbs, D. Ecological Modernization, Regional Economic Development and Regional Development Agencies. Geoforum, Vol. 31, 2000, 9-19.
- Goldsmith, Edward, et al. The Future of Progress: Reflections on Environment and Development. Dartington: Green Books, 1995.
- Grosskurth, J. amp; J. Rotmans. The Scene Model: Getting Grip on Sustainable Development in Policy Making. Environment, Development and Sustainability, 7, no.1, 2005,135ndash;151.
- Grubb, M. International Emissions Trading Under the Kyoto Protocol: Core Issues in Implementation. RECIEL 2,1998, 140-146.
- Hajer, M. A. The Politics of Environmental Discourse: Ecological Modernization and the Policy Process. Oxford: Oxford University Press,1995.
- Hajer, M. A. `Ecological Modernization as Cultural Politics', in Lash, S. et al. Risk, Environment and Modernity: Towards a New Ecology. London: Sage, 1996.
- Hau, J.L. and B.R. Bakshi. Promise and Problems of Emergy Analysis. Ecological Modelling 178(Special Issue), 2004, 215-225.
- Hawken, P. The ecology of commerce. New York: Harper Business, 1993.
- Henderson H. Beyond globalization: shaping a sustainable global economy. London: Kumarian Press, 1999.
- Levin, A. I. Sustainable Development and the Information Society. Russian Studies in Philosophy, 45, No. 1, Summer 2006, 60-71.
- Low, Nicholas and Brendan Gleeson. Justice, Society and Nature: An Exploration in Political Ecology. London: Routledge, 1998.
- Lowe, I. Globalization, Environment and Social Justice. Social Alternatives, 23, no.4, 2004, 37-41.
- McNaghten, P. and Urry, J. Contested Natures. London: Sage, 1998.
- Meadows, D. et al. The Limits to Growth: A Report to the Club of Romersquo;s Project on the Predicament of Mankind. New York, 1972.
- Mol, A. P. Ecological Modernization and the Environmental Transition of Europe: Between National Variations and Common Denominators. Journal of Environmental Policy and Planning, Vol. 1, No. 2, 1999, 167-181.
- Morehouse W. ed. Building Sustainable Communities: Tools and Concepts for Self-reliant Economic Change. Charlbury: Jon Carpenter, 1997.
- Naess A. The Deep Ecology Movement: Some Philosophical Aspects. Philosophical Inquiry, III ,1986, 10ndash;31.
- Pallmearts, M., ldquo;International Environmental Law from Stockholm to Rio: Back to the Future?rdquo; Reciel Vol. 1, No. 3 (1992).
- Roberts, P. W. Wealth from Waste: Local and Regional Economic Development and the Environment. Geographical Journal 170, Issue 2, 2004, 126-134.
- Rogers, R. Nature and the Crisis of Modernity. Montreal: Black Rose. 1994.
- Ruether, Rosemary Radford. New Woman/New Earth: Sexist Ideologies and Human Liberation. New York: Seabury, 1975.
- Russell, P. Waking up in Time: Finding Inner Peace in Times of Accelerating Change. Novato, CA: Origin Press, 1998.
- Salleh, Ariel. Ecofeminism as Politics: Nature, Marx and the Postmodern. London and New York: Zed Books, 1997.
- Sands, P. International Law in the Field of Sustainable Development: Emerging Legal Principles, pp. 53-66. in Lang, W. (ed.) Sustainable Development and International Law. London/Dordrecht/Boston: Graham amp; Trotman/Martinus Nijhoff, 1995.
- Shiva, V. Staying Alive: Women, Ecology and Development. London: Zed Books, 1988.
- Spretnak, C. The Resurgence of the Real. Ontario: Addison-Wesley: Don Mills,1997.
- Starr, A. Naming the Enemy: Anti-Corporate Movements Confront Globalization, Sydney: Pluto Press, 2000.
- United Nations Development Programme (UNDP), Human Development Report, 1995, New York: Oxford University Press, 1995.
- Warren, Karen J. quot;Feminism and Ecology: Making Connections,quot; Environmental Ethics 9 (1) ,1987, 3-20.
- Warren, Karen J. The Power and Promise of Ecological Feminism. The Journal of Environmental Ethics. 12 (Summer), 1990, 125-146.
- Warren, Karen. Ecofeminism: Women, Culture, Nature. Bloomington: Indiana UP, 1997.
- WCED (World Commission on Environment and Development), Our Common Future, Oxford: Oxford University Press, 1987.
- Wenz, Peter. Environmental Justice. New York: State University of New York Press, 1988.
- Zimmerman, M. E. Feminism, Deep Ecology and Environmental Ethics. Environmental Ethics. 9, 1987, 21ndash;44.
٭ أستاذ التنمية السياسية المشارك. قسم العلوم السياسية، جامعة الملك سعود، المملكة العربية السعودية.
[1] See IUCN/WWF/UNEP, World Conservation Strategy: Living Resources for
التعليقات