بقلم كريم بقرادوني: مع انتخاب نبيه بري رئيساً لمجلس النواب للمرة الخامسة على التوالي منذ العام 1992 على نحو توافقي، يخطو لبنان خطوة ثانية نحو الحالة التوافقية، بعدما خطا خطوته الاولى بانتخاب ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي انتظار ان يخطو خطوته الثالثة بتسمية سعد الحريري رئيساً للحكومة في صورة توافقية ايضاً. وفي موازاة الحركة التوافقية على مستوى الرؤوساء الثلاثة، التقى وليد جنبلاط حسن نصر الله بعد انقطاع دام ثلاث سنوات ونيف، في محاولة للانتقال من حالة الشك والحذر الى حالة التوافق والتفاهم، مما يشرّع الأبواب امام صفحة جديدة من شأنها ان تسهل تشكيل حكومة وفاق وطني.

ومن المعروف للقاصي والداني ان بصمات نبيه بري في المصالحات بارزة، كما ستبرز في تشكيل حكومة الوفاق اذا قيّض لها ان ترى النور، وهذا ما يأمله اللبنانيون الذين يتوقون الى مرحلة من الهدوء والاستقرار تكون طويلة.

وتكتسب حكومة الوفاق اهمية خاصة فهي تشي بانتهاء مرحلة المواجهات التي بدأت مع اغتيال رفيق الحريري في شباط/فبراير 2005، وانتهت باتفاق الدوحة في ايار/ مايو 2008، وقد لمس كل الافرقاء ان القوة، سواء على المستوى العسكري أم على المستوى السياسي، في المواجهات الميدانية أم الانتخابات النيابية، لا تحسم أي امر من الامور في نظام طائفي يتكون من 17 طائفة، لكل منها مرجعيتها الدينية وقانون أحوالها الشخصية ومحاكمها واحزابها وعلاقاتها العربية والدولية، ناهيك بالتفاف الناس حولها اكثر من التفافهم حول الدولة.

ولا تخفى هذه الحقيقة على العالم الخارجي الذي يتعامل مع لبنان على انه مجموعة طوائف مستقلة، بدل ان يتعامل معه كدولة مستقلة، فلا يكتفي ممثلو الدول ومبعوثوها بالتواصل مع الجهات الرسمية، كما يفعلون في كل انحاء المعمورة، بل هم يلتقون المرجعيات الدينية ويستمعون اليها، كأنها جزء لا يتجزأ من مكونات السلطة والقرار. كاد ان يحقق اغتيال الحريري معجزة توحيد اللبنانيين، غير انهم سرعان ما انقسموا فريقين متواجهين بين 8 و14 آذار/ مارس، وصار الشارع شارعين، والاعتصام اعتصامين، فعمّت حالة طائفية ومذهبية غير مسبوقة، وبلغ الانقسام أوجه في كل شيء وحول كل شيء، وتعطلت لغة التخاطب وعلت اصوات الاتهامات المتبادلة وتخوين الآخر وتحميله كل المسؤوليات ، وسادت حالة جنونية اختلط فيها منطق تصفية الحسابات بمنطق لعبة الامم.

تراءى لكثيرين اثناء الاعتصامات والتظاهرات والمواجهات ان الدولة تفككت، ولم يعد في الامكان لحم ما انكسر ولا جمع ما تفرق، لولا مبادرة نبيه بري الذي اطلق فكرة طاولة الحوار الوطني فشكلت هذه المبادرة في حينها بارقة الأمل التي حفظت وحدة لبنان واللبنانيين. حلّ العقل القطري، نسبة الى دولة قطر، محل الانفعال اللبناني، فجاء مؤتمر الدوحة لينقل لبنان من حالة الاقتتال الضاغطة الى حالة التعايش المعهودة، وجاءَت انتخابات 2009 لتعيد تنظيم هذا التعايش بين أكثرية شرعية معترف بها من المعارضة، ومعارضة شرعية تعترف بها الأكثرية، فاستقامت اللعبة الديمقراطية، وبات من الممكن ان تتسرب حالة التوافق من رئاسة الجمهورية الى مجلس النواب، وقد تنتقل من مجلس النواب الى الحكومة.

يبدو لي ان المصالحات سلكت طريقها المرسوم لها، ومن المتوقع ان تتوسع لتشمل العديد من أهل الاكثرية وأهل المعارضة، بما فيها اللقاء المنتظر بين أمين عام quot;حزب اللهquot; حسن نصرالله ورئيس quot;تيار المستقبلquot; سعد الحريري، المرشح لتشكيل الحكومة المقبلة. ومن النافل القول ان ظروف انتخاب رئيس مجلس النواب تختلف كثيراً عن ظروف اختيار رئيس الحكومة وتشكيلها، لكن انتخاب بري بالتوافق يدل على ان رغبة التفاهم متوافرة ويمكن البناء عليها، ويمكن الاعتماد على نبيه بري ليكون عرّاب حكومة الوفاق الوطني.

الحالة التوافقية تحققت في الرئاسة الاولى والرئاسة الثانية ومن المتوقع ان تشمل الرئاسة الثالثة ، فيكون لبنان قد اقفل الباب على زمن المواجهات والانقسامات، وولج عتبة المصالحات والتفاهمات، وهذه فرصة متاحة لا تعوض. ندائي الى نواب الامة المنتخبين ان ينصتوا الى صوت ناخبيهم الذين شبعوا من المهاترات والمزايدات، وهم يتطلعون الى التهدئة والمصالحات، وطلبهم واحد أحد: اضمنوا لنا الاستقرار، واتركوا الباقي علينا.

* وزير سابق ورئيس سابق لحزب الكتائب اللبنانية.