إيلاف من بيروت: ليس لبنان محطة عابرة في الشرق، ولطالما كانت قامة هذا البلد أكبر بكثير من حجمه الجغرافي. أيضاً، لطالما فاق تأثير اللبنانيين عددهم الضئيل، وهم شعب لا يتجاوز عدد أفراده بضعة ملايين. ولا تختصر صورة لبنان الحالية حكاياته كلها. إن جزءاً من وجه لبنان الحالي قد يكون قبيحاً، هذا في السياسة، لكن في ما يتعدى السياسة، فإن ثمة لبنان آخر، كان على امتداد عشرات العقود منارة إشعاع حضاري ومحطة رئيسية للسياحة والتلاقح الفكري والثقافي بين الشرق والغرب، وبوصلة للحداثة بأشكالها كلها، ودرباً للعراقة، ومنصة رئيسية للصحافة والنشر والأدب والشعر والموسيقى والذوق الرفيع والغناء والعمارة وغيرها الكثير.

نتلمس بعضاً من صور هذا "اللبنان" في تقرير نشرته مجلة How To Spend It Arabic، وفيه يروي جيل خوري قصة امتهانه الصحافة، والهاجس الذي تملكه منذ نعومة أظفاره. وما هذا الهاجس؟ لقد كان جدّه، الحكواتي الفذ، يقصّ على مسامعه بعض الروايات عن "لبنانِه": لبنان الذي عرفه في ما مضى ويبدو أنه لم يُشفَ منه مطلقاً. ويتذكّر أنه كان يصرّ دائماً على قول "بيروتي، لبناني"، مع شعورٍ بالتملّك اكتشف لاحقاً أنه موجود لدى معظم اللبنانيين. وليس المقصود هنا الحديث عن نزعةٍ قومية أو عن الرغبة القوية في حيازة قطعة أرض لأجل الأرض بحد ذاتها، بل إنها رغبة، لا بل توق إلى حمايتها، وإلى صون شيءٍ يوشك على الاندثار.

وكانت حكايات الجدّ تنساب الواحدة تلو الأخرى، فيسطعُ العصر الذهبي من جديد، أي تلك المرحلة التي امتدّت عقدَين من الزمن قبل اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، والتي امتدت من العام 1975 وحتى العام 1990، وانتهت باتفاق بين المتنازعين عقد بجهود سعودية مباركة في مدينة الطائف السعودية، وكان جدّه يسترجع حكايات تلك الحرب في رواياته. مع مرور السنين، وفيما كان شاهداً على بلاده المقيمة دائماً عند حافة الفوضى والخطر، بدأ يقلق من احتضار هذه الروايات. وشعر بأنه انغمس أكثر فأكثر في مهمة الحفاظ عليها وعدم التفريط بها. لذلك أصبح صحافياً.

فندق Palmyra
يشعر البعض بأن من واجبهم تكريم تلك الذكريات والحكايات في خطوةٍ أشبه بتحدّي الأزمة الراهنة. ريما الحسيني من هؤلاء. فهي تعتبر نفسها "حارِسة" فندق Palmyra، وهو واحدٌ من أقدم ثلاثة فنادق في منطقة الشرق الأدنى. سيحتفل هذا الصرح الذي يقع قبالة آثار بعلبك في مدينة الشمس في البقاع، بعيده الخمسين بعد المئة في عام 2024. إنه أكثر من مجرد فندق، فالإقامةُ فيه رحلةٌ بكل ما للكلمة من معنى؛ رحلةٌ تتوه فيها، أو تشعر أحياناً بأن مسارَك يتقاطع مع مسارات تخيّم عليها أشباح الشخصيات المرموقة التي نزلت في هذا الفندق في ما مضى.

فيلا شمعون
في قرية حصرون الواقعة في شمال لبنان على مسافة 90 دقيقة شمالاً من العاصمة بيروت، تنتصب فيلا حداثية صمّمها الراحل توفيق شمعون في عام 1965. في تلك الحقبة، لم تكن هذه المنازل الصيفية منارات للتقدّم المعماري فحسب، بل كانت تجسّد أيضاً (لا بل بصورة أساسية) نمط العيش في العصر الذهبي. بعد أعوام قليلة من بناء الفيلا، خُطِف شمعون وفارق الحياة في الأسر. كانت فاجعة كبيرة للعائلة التي أقفلت أبواب الفيلا وهجرتها طوال ما يناهز 45 عاماً. لكن زيبارة قرّر في العام الماضي "إعادتها إلى أمجادها السابقة، بالمحافظة على الحكاية والتصميم، مع اللمسات والتفاصيل المطلوبة".

يقول خوري إن أكثر ما يلفت الأنظار في Villa Chamoun خيوطها الانسيابية التي تجمع بين فن العمارة الذي تميّزت به الحقبة الجميلة أو ما يُعرَف بـ belle époque في ستينيات القرن الماضي، والمعايير المثالية لبيت ضيافةٍ حديث. لتحقيق ذلك، استعان زيبارة بحِرَفيين ومصمّمين محليين مثل ندى دبس، وميليا مارون، ورنا سلام للمشاركة في تصميم الفندق، حيث تشاركوا أفكارهم لإعادة اختراع تجربة قريةٍ لبنانية.

هذا الشعور باللجوء إلى ملاذ مريح، في أحضان معالم حقيقية إنما أيضاً في حنايا زمنٍ غابر حين كانت الحياة أكثر سهولة وسعادة، هو ما يبحث عنه لبنانيون كثرٌ الآن، في خضمّ أحداث تعصف بالبلاد ويعجز الكلام عن وصفها. ويمكنك الشعور بذلك لدى اطلاعك على التحقيق المنشور في How To Spend It Arabic على هذا الرابط.