سعيد حريري من عمّان: أحيت الفنّانة سحر طه أمسية رائعة عانق فيها نخيل العراق أعمدة جرش، وذلك مساء أمس على المدرّج الروماني في المسرح الشمالي في مدينة جرش الأثرية، وطبعاً ضمن مهرجان جرش للثقافة والفنون في دورته الرابعة والعشرين، علماً أن تلك الفعالية تعاد مساء اليوم ضمن فعاليات عمّان على المسرح الرئيسي للمركز الثقافي الملكي.
ورافق سحر في وصلتها الرائعة عازفات من تخت نسائي شرقي أسّسته في بيروت، وهنّ: سناء شباني على الناي، وماغي مخّول على القانون، وسلمى هلال على العود، ورنا سلامة على الطبلة، إلى جانب مشاركة من قبل موسيقيين أردنيين.
بدأت سحر الأمسية بقصيدة رائعة للشاعر العراقي عبد الوهّاب البيّاتي، ومن ألحان سحر نفسها، وتتضمّن مناجاةً للّه عزّ وجل، ورجاءً منه بأن يعيد الفنّانة الشفافة إلى وطنها الذي إشتاقت إليه، كما تعبّر القصيدة عن مدى الشوق واللهفة للعودة إلى الوطن، العودة إلى العراق الجريح، ويقول مطلع القصيدة:
"إلهي أعدني إلى وطني
عندليب
على جنح غيمة
على ضوء نجمة
إلهي أعدني إلى وطني
آه آه آه..."
وتضمّن البرنامج مجموعة من الأغاني العراقية الشعبية القديمة التي عرفناها بصوت كبار مثل ناظم الغزالي، وزهور حسين، وفاضل عوّاد، وآخرين، ونذكر منها: "أشقر بشامة"، و"مرّوا عليّ الحلوين" "لو للغرام حاكم"، ومنها بستات قديمة مثل "فراقهم بجاني"، و"ربيتك زغيرون"، و"على شواطي دجلة"، إلى جانب اغاني الدبكة العراقية المعروفة "بالجوبية" مثل "نايل قتلني"، و"أقراك"، و"شونك".
وأبدعت سحر في آداء أغنية "لولا للغرام حاكم" لزهور حسين، وهي أيضاً الأغنية التي جدّدتها الفنّانة اللبنانية سهام رفقي في الخمسينات، ويقول مطلع الأغنية:
" لولا للغرام حاكم
كنت أشتكي أمري
وأقول الحبيب ظالم
بكّاني طول عمري"
وأجادت، وسلطنت، وأطربت الحاضرين، عندمّا غنّت لفاضل عوّاد "أشقر بشامة":
"أشقر بشامة / يا بو إبتسامة
ليلي ما نامه / بعيوني سهر
عيونك شجر / وجهك بدر
دوم أنتظر
على الفرقة ..الفرقة أنا ما قدر"
وللعراقية فريدة غنّت سحر "عيني يا بو خدود الضي"، ومقام جهاركاه وأغنية "مرسالك"، وللقدير حسين الأعظمي أبو ذية غنّت "إلهي ليس للعشّاق ذنب"، وإستعادت الشيخ إمام في أغنية بعنوان "تكرم عين الشعب الزين"، كتحيّة منها لمقاومي وفدائيي عمّان وفلسطين ولبنان:
"تكرم عين الشعب الزين في عمّان وفي فلسطين
تكرم عين الشعب الزين في لبنان وفي فلسطين..."
وكرّمت طه الملحن العراقي والمطرب القدير رضا علي الذي رحل منذ أشهر، وذلك من خلال أغنيتي "سلّم يا ولفي"، و"خي لا تسد الباب بوجه الأحباب" التي لحّنها في الخمسينات، وغنّتها اللبنانية الراحلة فايزة أحمد، ويقول مطلع "سلّم يا ولفي":
"سلّم يا ولفي سلّم
كلّ ما تمرّ عليّا
مهما تروح مهما تيجي
تاري مرجوعك ليّا"
ومن ألحانها قدّمت سحر أربع أغنيات هي: "وعدني يزورنا الغالي.. ولا أدري شغيّر أحوالي"، وهي من كلمات الشاعر البحريني إبراهيم شعبان، و"إلهي أعدني إلى وطني عندليب" للشاعر عبد الوهاب البياتي كما سبق وذكرنا، وقصيدة لوالدها الشاعر هادي الخفاجي "ودّعت بغدادا"، وجوبية "شكراً محبوبي"، وإختتمت سحر صاحبة الآداء الشفاف والسلس كعذوبة مياه دجلة والفرات الأمسية الرائعة والمميّزة التي إمتزجت فيها أصالة الغناء والموشّحات العراقية الجميلة بأصالة أعمدة المدينة الأثرية العريقة، وبفخامة المسرح الشمالي في جرش الذي إلتصقت به صفّة النخبوية والأعمال المنتقاة بعناية لجمهور من نوع آخر، لجمهور يختلف تماماً عن جمهور الطبلة والزمر، وبعيد تماماً عمّن ينطبق عليهم المثل القائل "بدون دفّ بيرقص"!!، إنّها أمسية لهواة الأصالة والثقافة والذوق الرفيع... إختتمت سحر الأمسية بأغنية رائعة تحمل عنوان "يا طير الرايح لبلادي" التي غنّاها فؤاد سالم، وتقول كلماتها:
" يا طير الرايح لبلادي
أخذ عيوني تشوف بلادي
مشتاق لكلّ الأحباب
ولكل شارع ولكل باب
ومشتاق لأرضي وأطفالي
وترابك يا وطني الغالي..."
حقّا سحر فنّانة رائعة، تعرف كيف تعزف على الوتر الحسّاس، وتعرف كيف تعيش العراق في قلبها ووجدانها، حتّى ولو لم تكن في أرضه الطاهرة، إنّها تحمله لواءً ورايةً مرفوعة في يدٍ تنزف دمّاً مرّاً، وتراه في عينٍ تذرف دموعاً غزيرة نتجت بفعل الإشتياق والحنين واللهفة، ووصل الأمر بكلّ عراقي مغترب، كما في الأغنية، إلى أن يطلب المستحيل: أن يطلب من الطير أن يأخذ عينيه ليرى الأحباب، والشوارع، والأطفال، والأرض، والتراب، نعم إنّه يجتزأ جسده، ويكتفي بأن تذهب عيناه فقط، وليس جسده كلّه، لتعوّض عليه ما فاته، وتحقّق له أمنياته الغالية، نعم سحر طه خير مثال للفنّان العراقي الذي يحمل هموم وطنه، ويشرّفه أينما حلّ، نعم سحر طه خير مثال لكلّ فنّان أصيل، صادق، وشفّاف، ومتواضع!
هذا وتسعى الفنّانة سحر طه المتمسكة بأغاني التراث العراقي إلى تقديم أغاني التراث العربي مثل اللبناني، والمصري، والسوري، والأردني، واليمني، كما تبرز إهتمامها بالتركيز على العنصر الموسيقي االنسائي لتدعيم موقعها بتشجيع الطاقات الإبداعية النسائية، وبخاصة في مهنة العزف الموسيقي، وترى طه أن دولاً عربية مثل مصر، والعراق، وتونس، والجزائر، والمغرب، سبّاقة في مجال تأسيس فرق موسيقية نسائية فيما لا تزال المسألة في سوريا، والأردن، ولبنان، تجربتها بسيطة رغم وجود طاقات كثيرة، وبدأت المعاهد الموسيقية تنشئ فرقا نسائية عربية (تخت شرقي)، وما تزال الخطوة في بداياتها متمنية لها النجاح والإستمرار.
ويذكر أنّ فكرة التخت النسائي الشرقي راودت الفنّانة سحر طه منذ أواسط التسعينات، وسعت جاهدة للعمل على تأسيس فرقة بالتعاون مع آخرين، وكانت المشاركة الأولى لها مع الفنّان محمّد قصّاص بفرقة شيخات الطرب لفترة قصيرة عام 1996، ثمّ تابعت مع المنتج مروان حدّاد تأسيس فرقة الهوانم عام 1997، التي كان عمادها فتيات تخرّجن من برنامج
"نجوم المستقبل"، لكن الخطوات كانت بحاجة إلى منتجين ومموّلين لضمان إستمرارها.
كما لفتت طه إلى تجربة الأستاذ فادي يعقوب في المعهد الموسيقي في بيروت، في تأسيس فرقة نسائية للموسيقى الشرقية حيث أدّت العديد من الحفلات الناجحة.
أمّا أولى آداءاتت الفرقة النسائية مع سحر طه فكانت العام الماضي عندما مزجت التخت الشرقي مع موسيقيين شباب قدّموا معاً حفلتين: الأولى في الجامعة الأمريكية في بيروت، وشاركت معها العازفات المذكورات، إضافةً إلى عازفة الكمان نادين الخطيب التي غابت عن عرض الفرقة في جرش هذه المرّة لظروف خاصّة.
وبالعودة إلى مهرجان جرش تأتي مشاركة الفنّانة طه للمرّة الثانية بعد أن سبق لها وشاركت عام 2003 بحفلتين الولى في مسرح "أرتيمس" في جرش، والثانية في المركز الثقافي الملكي في عمّان، وإستقبلها الجمهور الأردني والعراقي حينها بحفاوة بالغة، بعد أن تعاطف معها إبّان الحرب الأمريكيّة على العراق من خلال الأغنية الرائعة "يا طير الرايح لبلادي" التي عرضت على الشاشات العربية بكثافة يومذاك.
[email protected]
التعليقات