من المؤكد أن الذين خططوا ونظموا الحملة على الداعية المعروف الدكتور يوسف القرضاوي في بريطانيا لم يتوقعوا أن تبادر الحكومة البريطانية إلى طرده من لندن أو سحب التأشيرة منه كي لا يعود إليها مرة أخرى، ذلك أن دولة لم تعتقل أبو حمزة المصري وأبو قتادة الفلسطيني إلا منذ مدة قريبة ، فيما لا يزال عمر بكري يتحرك فيها بكل حرية، لا يمكن أن تقفز نحو رجل مثل القرضاوي سمته الاعتدال ويحظى باحترام كبير في أوساط الأمة، في ذات الوقت الذي يعاديه قطاع من المتشددين، أكانوا من جماعات العنف أم المنظرين لها، أم من أولئك الذين يمارسون العنف الفكري ضد الآخرين، حتى وهم يرفضون العنف الآخر، مع أنهم يهيئون الأرضية الملائمة للعنف المادي.
على أن ذلك لا ينفي أن مسلسل التسامح الذي اشتهرت به بريطانيا مع الإسلاميين بشتى أطيافهم قد أخذ يتراجع خلال السنوات الأخيرة، الأمر الذي يشير إلى إمكانية وصوله إلى مستوى أكثر تشدداً كذلك الذي يتوفر في فرنسا حالياً وكذلك في الولايات المتحدة.
لا حاجة إلى القول إن الذي يتولى المواجهة مع الحالة الإسلامية في أوروبا وقبل ذلك في الولايات المتحدة هم اليهود وأقله الفئة المتصهينة منهم، وإذا حاولنا التدقيق في حقيقة الموقف ودوافعه فإننا لن نتجاوز الحالة التي أنتجتها انتفاضة الأقصى في وعي الغالبية الساحقة من اليهود في العالم، ذلك أن التهديد الوجودي الذي شكلته تلك الانتفاضة على إسرائيل قد ترك آثاراً على الجاليات اليهودية جعلها باعتراف الدوائر الإسرائيلية أكثر تطرفاً من الإسرائيليين أنفسهم، بل إن رجلاً مثل شارون ما كان له أن يحظى بكل هذا التقديس في تلك الدوائر في زمن سابق، حيث كان الطابع العام للجاليات اليهودية يميل إلى دوائر حزب العمل.
لم يتوقف الأمر عند حد انتفاضة الأقصى وما تركته من تهديد على الدولة التي يراها أكثر اليهود أمهم وأبيهم وحاضرهم ومستقبلهم، بل تجاوزها إلى العلاقة مع الدوائر الأوروبية نفسها، فقد وجد القوم أن مستوى الكراهية لهم قد تصاعد في السنوات الأربع الماضية على نحو لم يعرف من قبل. وإذا كان القمع الموجّه ضد الفلسطينيين قد ترك آثاره على المعادلة المشار إليها، فإن تصاعد النفوذ اليهودي في المعادلة الأميركية والأوروبية قد ساهم في ذلك أيضاً، فيما جاء الموقف اليهودي من الحرب على العراق ليزيد الطين بلة، وذلك عندما سادت قناعة في الدوائر الأوروبية وحتى الأميركية مفادها أن اليهود هم الذين دقوا طبول تلك الحرب.
هكذا وجد اليهود أن مستوى العداء لهم قد أخذ يتصاعد فيما جرى الربط بينهم وبين الولايات المتحدة التي يحكمها اليمين واليمين الصهيوني، الأمر الذي عكسه للمرة الأولى استطلاع الاتحاد الأوروبي الشهير الذي وضع إسرائيل في المرتبة الأولى بالنسبة للدولة الأخطر على السلام العالمي تليها الولايات المتحدة. وعندما أراد اليهود البحث عن مشجب يعلقون عليه ما جرى ويجري لم يجدوا غير الجاليات الإسلامية. وبالطبع فقد كانت المسألة الإسلامية وشعور المسلمين بهويتهم جزءا لا يتجزأ من تلك المعادلة، فيما كانت تداعيات هجمات الحادي عشر من سبتمبر هي الفضاء المناسب لذلك كله.
في هذا السياق بالذات تأتي الحملة اليهودية على الدكتور القرضاوي، فيما تتجه التهمة الرئيسية بالنسبة للرجل إلى مواقفه حيال الانتفاضة الفلسطينية، وتحديداً موقفه الشهير من العمليات الاستشهادية التي يراها من أعظم الجهاد في سبيل الله عز وجل. وبالطبع فإن ترهيب رجل معتدل مثل القرضاوي هو رسالة لكل من يفكر باتخاذ مواقف قوية من الصراع العربي الإسرائيلي أو من الحرب على العراق التي لا تقل أهمية عن الملف الفلسطيني، سيما الموقف من المقاومة.
هناك إلى جانب الحملة على القرضاوي ما يمكن وصفه بأنه محاولة إرهاب الجهة الداعية للرجل ممثلة في الرابطة الإسلامية. وهذه الأخيرة هي الجهة الإسلامية الأكثر نشاطاً في كل المؤسسات الإسلامية العاملة في أوروبا، فيما تتميز بتحركها الواسع في الساحة السياسية من دون عقد الخوف والتردد، بدليل تلك المواقف القوية التي أخذتها حيال الحرب على العراق وكذلك حيال الملف الفلسطيني حيث كان لها دور بارز في تنظيم أكبر المظاهرات في تاريخ بريطانيا بالتعاون مع العديد من المنظمات الأهلية البريطانية.
من هنا تبدو الرابطة الإسلامية في رأس قائمة الاستهداف، سيما بعد دورها الأخير في الانتخابات البلدية وانتخابات البرلمان الأوروبي، وحيث شعر اليهود للمرة الأولى بأن الجالية الإسلامية قد غدت قوية ومؤثرة وإن كانت المسافة بينها وبينهم لا تزال كبيرة.
من المؤكد أن الحملة على القرضاوي لن تؤتي أكلها فيما يتعلق بمواقف الرجل الذي شارف على الثمانين ولم يعد بإمكانه تغيير مواقفه من القضايا الكبيرة التي تعيشها الأمة وتؤثر في مصيرها، لكن للموقف أبعاده الأخرى كما أشرنا فيما يتعلق بإرهاب الجالية الإسلامية في بريطانيا وخارجها ومن ثم إرهاب العلماء الآخرين كي لا يأخذوا مواقف مشابهة تجر عليهم المشاكل.
من الصعب القول إن الحملة ذات صلة بتأسيس الاتحاد العالمي لعلماء الإسلام الذي جاء القرضاوي من أجل الإعلان عنه، لكن أية مواقف تعيد اللحمة إلى صفوف المسلمين هي مما يثير أعصاب الصهاينة الذين يركزون هجمتهم على أية أنشطة وحدوية وذات خطاب معتدل وقوي في الآن نفسه، إذ أن الخطاب المتشدد الذي لا يحمل بوصلة سياسية يبدو مريحاً إلى حد كبير من حيث كونه يشوه الرسالة الإسلامية ويسهل الهجوم عليها.
لقد تساءل الكثيرون في ظل الهجمة على القرضاوي عن الإسلام الذي يريده هؤلاء وأولئك، وما إذا كان إسلاماً لا يحمل أي قدر من العزة والكرامة، كما لا ينطوي على أي بعد سياسي كذلك الذي يحمله بعض الموتورين الذين تخصصوا هم أيضاً في هجاء رجال مثل القرضاوي، بينما لا يجد المرء لهم أثراً أو دوراً في سياق الدفاع عن قضايا الأمة.
خلاصة القول هي أن الهجمة على القرضاوي تؤكد صواب بوصلته، وعليها أن تدفع الآخرين باتجاه مواقف كمواقفه من صراع الأمة مع أعدائها، حتى لو وصفهم الآخرون بالتطرف ورفضوا منحهم تأشيرات زيارة لبلاد الغرب، إذ ما قيمة أن يربح العالم أو الداعية أو السياسي رضا الغرب ويخسر نفسه وأمته؟!


الوطن العمانية