يقول المثل الايراني الشهير «من اجل منديل لا يحرقون سوق البزّازين» والبزازون هم بائعو الأقمشة. والمثل كناية أو تعبير مكثف عن قصة «اسطورية» مفادها ان صانعا يعمل عند بائع للاقمشة ترك النار تلتهم سوق البزّازين بأكمله لأنه لم يجد المنديل الخاص به الذي كان اعتاد على استعماله لاطفاء الحريق الصغير كلما حصل في دكان صاحبه وبالتالي لم يجتهد في تفعيل عقله وابتداع وسيلة مستحدثة في تلك اللحظة لاطفاء الحريق الصغير قبل أن يمتد الى السوق بأكمله.
ثمة تفسير أو تعبير آخر للمثل المذكور مفاده ان هذا الصانع ارتضى لنفسه القبول برؤية البازار أو السوق يحترق بأكمله فيما هو منشغل في البحث عن «قطعة القماش» الخاصة به لتخليصها من نيران الحريق!وسواء كان التعبير المعتمد هو الأول أو الثاني، فقد ذهب القول الآنف الذكر مثلا للتعبير عن كل من يترك النزاع على جزئية مهما كانت اساسية، يشتعل ويمتد أواره ليلتهم الكل، دون اي اعتبارالا لما يراه هو من أهمية أو أولوية لتلك الجزئية.
يحضرني هذا المثل الايراني بقوة هذه الأيام وأنا اتابع احداث وتطورات مدينة الصمود والتصدي غزة هاشم في فلسطين.
كل شيء في سياق الاحداث الاخيرة خطأ. وأي خطأ، انه خطأ في الصميم وفي القلب من جسم القضية. خطأ في المكان أولاً لأن غزة ضربت المثل الاعلى في الصمود والتصدي خلال الاشهر الاخيرة امام الهجمة الشارونية الاستئصالية.
وخطأ في التوقيت الدولي ثانيا لأنها جاءت ولم يكتمل العرس الفلسطيني بعد على قاعدة معركة الجدار العنصري التي كان يمكن ان تتابع فصولها فتتحول الى فرحة عالمية يشترك فيها كل أحرار العالم.
وخطأ في التوقيت الاسرائيلي أيضا لأنها جاءت في وقت بدا فيه الجلاد والقاتل محاصرا من كل جانب والضغوط تتصاعد ضده لاجباره على الانسحاب من غزة هاشم تاركا وراءه ثياب الذل والعار ممزقة في شوارع القطاع ومدنه وبلداته وهي تلبس ثياب العيد. عيد الانتصار وعلى المحتل.
وخطأ في حسابات «الدولة» الفلسطينية محطة مؤقتة اعتبرناها بالون اختبار لقياس وحدات الطول والعرض وارتفاع قامة الفلسطيني صاحب الارض والقضية او حتى اذا ما اعتبرناها مؤامرة من بقايا «مؤامرات» وثيقة اوسلو واتفاقياتها. لأنه بالكاد كان حبر تقرير ممثل الامين العام قد نشف وهو يبشر الاسرائيليين وكل من يعنيه الامر من اصدقائهم بقرب انهيار السلطة الفلسطينية، حتى برز رأس الافعى في فتنة غزة الفلسطينية.
اعرف، وأنا القريب وان كنت بعيداً بالجغرافيا والتنظيم وربما بالهوية (في حال اعتبار الهوية ورقة رسمية يصدرها حاكم هذا البلد او ذاك لمواطنيه مقابل ولاء زمني محدود لهذه القطعة الجغرافية الاعتبارية او تلك، وليست هوية نضال وهم واهتمام) ان المنخرطين في احداث غزة الاخيرة ليسوا كلهم بالضرورة من جنس واحد.
فثمة مطالبون عن حق بضرورة الاصلاحات السياسية الشاملة وفي طليعتها مكافحة الفساد. وثمة آخرون يشعرون بأنهم الاقرب لنبض الشارع الغزاوي والاعرف من غيرهم بحقيقة الاوضاع في غزة وبالتالي فإنهم الأولى بالتشاور وبالمشاركة في صناعة القرار الغزاوي وربما الفلسطيني كله لأهمية غزة ومحوريتها.
لكنني اعرف ان ثمة اخرين ايضاً يقفون على «يمين» هؤلاء ويمين السلطة الفلسطينية ومستعدون للذهاب بعيداً في الصراع من اجل «منديلهم» الخاص بهم حتى لو تطور الامر للاستعانة بالعدو المباشر فضلاً عن المخابرات الصديقة والشقيقة وان يقتلوا اخوانهم واخواتهم والقضية كلها! من اجل ذلك «المنديل» اللعنة.
بعض اوجه هذا الصراع خاص بالفلسطينيين منذ ان أجبروا على ترك ديارهم، حيث ظهرت اشكال منه في ايام الاردن والاغوار، وبعض اشكاله في لبنان وسوريا ايام جمهورية الفاكهاني.
لكن الجانب الاهم منه برأيي هو المستجد في ظل اشتداد موجة التآمر على حركات التحرر الوطني وقوى الاستقلال الرافضة للوصاية والتبعية للاجنبي أحزابا ومنظمات كانت او دولا وحكومات.
بعض ما يحصل في غزة اليوم امتداد لبعض ما يحصل في العراق ولبعض ما هو معد لإيران.لم ينتبه البعض في العراق الى بعض ما خطط له، ومن انتبه منهم فقد انتبه متأخراً أي «بعد خراب البصرة» طبعاً ثمة من هو يفتخر حتى اللحظة على ما «انجزه» بالتعاون مع الاحتلال!!
في ايران انتبهت الاكثرية من الاصلاحيين الى خطورة ما كان ومالايزال مبيتاً لهم. وقد ساعدتهم تطورات العراق كثيراً. وان كان بعض البائسين من صقور الاصلاحيين والمتطفلين على الاصلاحيين والاصلاحات قد كتب مؤخراً وعلى احدى صفحات جريدة لامعة محسوبة على الاصلاحيين مقالاً يدعو فيه الى «القبول» بـ «البديل الديمقراطي» حتى وان كان مستورداً من الخارج، في ظل صعوبة أو استحالة البديل الديمقراطي الوطني.
اعرف ان الامور في حيز السلطة الفلسطينية ليست على ما يرام. واعرف ان الفساد مستشر في بعض اجهزتها. وبالمناسبة فإن هذا حال العديد من «السلطات» في دول عديدة اقليمية وعالمية. وإنما اشتهرت به فلسطين لأنها الاضعف والاكثر استباحة والاكثر «شفافية» في كل شيء والاكثر استضعافاً من غيرها «استوطوا حائطها» .
كما يقول المثل، لكن الوقت ليس وقت محاسبة عرفات والحكومة فيما الوطن يحترق على ايدي جلاديه واعوانه من الانتهازيين والوصوليين والانقلابيين الذين تحاول تلميعهم المخابرات العدوة احياناً والصديقة احياناً اخرى، وان اختلفت الاهداف والغايات.
في فلسطين خاصة، وهنا خصوصياتها عن سائر قضايا العرب والمسلمين والعالم كافة يبقى شعار: «كل البنادق نحو العدو» هو الشعار الدائم والثابت حتى التحرير النهائي والكامل، فدم الفلسطيني حرام على الفلسطيني دائماً وابداً الا فيما يجمع عليه الفلسطينيون في لحظة تاريخية يمكن الدفاع عنها بالاجماع.
اذن، اوقفوا كل الصراعات، اقطعوا كل خطوط الاتصال بالاجنبي، وحدوا كل ترسانات سلاحكم «وباطونكم» لمواجهة الجدار الاكبر، جدار الفتنة والفصل والتفتيت. لا تحرقوا الوطن من اجل «منديلكم».
التعليقات