عامان وأكثر على بدء أحداث العنف في البلاد، وما تزال أسئلة كثيرة معلقة حول تنظيم «القاعدة»، فلا أجوبة أمام تساؤلات شعبية عن تأسيس «القاعدة» في السعودية، وعن كيفية تجنيد وتدريب العناصر من اليفع وحتى وصولهم إلى ما وصلوا إليه، فضلاً عن الجدل الماثل في السؤال حول الأساليب التي وفرت لهم المال والعتاد.
يتضح من الراهن أنه لا المؤسسات الأمنية، ولا الرسمية الأخرى، ذات الاختصاص بالحدث، تساعدان الرأي العام على فك الشفرة أمام تلك التساؤلات، فلا أحد من المراقبين على السواء يريد أن يبقى تنظيم «القاعدة» في السعودية لغزاً يعرفه أهل الاختصاص فقط، حيث إن الجمهور الذي يعيش الحدث منذ انطلاقته، يريد أن يعرف البداية، مترقباً فصول النهاية.
التأسيس لغز، والتجنيد لغز آخر، ولا حرج من السعي إلى البحث عن الجذور في هاتين المسألتين. المعلومة الشائعة، أو تلك التي أخذ بعض المهتمين يمررونها على المجتمع، تقول إن المخطط بدأ بعد أحداث 11 سبتمبر وضرب أفغانستان، ولكن الحقيقة الموثقة أمنياً تقول إن «القاعدة» بدأت تخطيطها للعمل في السعودية منذ عام 1992، بعد وصول أسامة بن لادن إلى السودان، وبدء تجهيز معسكرات التدريب، مع توافد العشرات من السعوديين إليه لتعلم أفكار التنظيم الثقافية والعسكرية.
قصة التأسيس طويلة جداً، ولها فصول عدة، ولكن اختصرها باكتمال الفكرة لدى أسامة بن لادن حول مشروعه، حين سعى عند منتصف التسعينيات إلى إيجاد قياديين يوكل إليهم «إمارة التنظيم» على التوالي. وذلك بعد أن سقط «رباعي العليا» الذين نفذوا عملية نوفمبر 1995، فوجد في يوسف العييري شخصية قيادية، بعد خروجه من السجن في الدمام عام 1998، وكلفه بالبحث عن كوادر قيادية داخل السعودية، وكذلك عناصر تنفيذية من تلك المجموعات التي حصل لها التدريب والقتال في مواقع عدة؛ كأفغانستان والبوسنة والهرسك وكوسوفا وبقية ساحات المعارك، باستثناء مقاتلي الشيشان، ويمكن اعتبار هذا التأسيس مرحلة اولى في عمر التنظيم داخل السعودية.
وكان على كل قيادي تم اختياره، مهمة أولية في تشكيل خلايا خاصة به، يعنى بتدريبها وتهيئتها للعمل، فبدأت المرحلة الثانية، وهي تشكيل الخلايا، التي استمرت قرابة خمسة أعوام.
وفي أعقاب ضرب أفغانستان في أكتوبر 2001، نشأ خلاف بين يوسف العييري وأسامة بن لادن على موعد بدء تنفيذ العمليات الميدانية، فالعييري كان يرى عدم مناسبة التوقيت، في حين بن لادن يخالفه الرأى، ويريد الاستعجال؛ لذلك تأخرت العمليات لأكثر من عام منذ مطلع 2002؛ بسبب خلاف التوقيت، إلى أن فرض بن لادن رأيه بضغط من معاونيه من القيادات المصرية، رغم أن العييري كان يرى عدم جاهزية الميدان ذلك الوقت، وأن التنظيم غير مكتمل وقابل للانهيار السريع، وكان قياسه مبنياً على قراءة وضع التنظيم داخل السعودية، وتحديداً في المدن التي شهدت الكثير من المواجهات، وحدث ما حدث فما أن بدأت العمليات في 12 مايو 2003، حتى تفكك التنظيم وسقط بشكل متسارع، إلى أن انحل الهرم بمقتل عبدالعزيز المقرن «القائد الأهم» في 18 يونيو 2004.
إذن، فيوسف العييري هو من أسس التنظيم بعد خروجه من السجن عام 1998، فالمخطط الذي بدأ إعداده منذ عام 1992، لم ينتقل إلى التطبيق الميداني إلا بعد أن تسلم العييري الإشارة من أفغانستان، ليبدأ مشوار التجنيد والتدريب.
أما اختيار العييري هو من أسس التنظيم بعد خروجه من السجن عام 1998، فالمخطط الذي بدأ إعداده منذ عام 1992، لم ينتقل إلى التطبيق الميداني إلا بعد أن تسلم العييري الإشارة من أفغانستان، ليبدأ مشوار التجنيد والتدريب.
أما اختيار العييري، رغم صغر سنه آنذاك، فكان لقدرته القيادية والعسكرية والعلمية، التي أهلته لكسب ثقة أسامة بن لادن، خاصة أن عدداً من جيل أفغانستان الذي زامل بن لادن إبان الثمانينيات، لم يعد موجوداً على أرض الحراك الجهادي، فالغالبية تراجعت عن فكرة العمل الميداني، وإن كانت ما تزال تحدث نفسها بالجهاد.
العييري، أو كما كنا نسميه «أبو صالح»، أذكره شخصياً قبل أن يلتزم، فقد نشأ في حي الجلوية في الدمام، وكان منزله ملاصقاً لمنزل جدي، والصفات القيادية كانت بارزة عليه في تعاملنا معه، رغم صغر سنه، وذلك حين نكون في ملعب ترابي للعب كرة القدم في الحي نهاية الأسبوع، أو نكون من جماهيره حين يمارس «التفحيط» بعد ظهر الاربعاء.
أما علاقته بزعيم التنظيم بن لادن، فقد بدأت منذ وقت مبكر، فبعد دخوله إلى أرض أفغانستان لم يكن التعرف على «الزعيم» عملاً شاقاً، خاصة لشاب قادم من السعودية حينذاك، وحين انتقل العييري إلى الصومال للتدريب والقتال، تعمقت العلاقة، ثم ازداد التواصل مع بن لادن، لتمتد علاقتهما طوال فترة بقاء العييري في السعودية إبان خروج بن لادن إلى السودان وإقامته هناك.
وقد متنت هذه العلاقة أكثر حينما بذل العييري جهداً واسعاً لصالح التنظيم، من خلال تأليف الكتب والمذكرات الشرعية التي ترفع من قيمة الجهاد وتكرس مشروعية علم «القاعدة» لدى عامة الشباب، وتسهم في إقناعهم بأفكار التنظيم ومشروعية نشاطه.
كان العييري اللبنة الأولى، أو الحجر الأساس للتنظيم، لتعقبه لبنات أخرى، نحكي عنها الأسبوع القادم.
في المقال السابق عرّفنا يوسف العييري كدعامة أولى في تأسيس تنظيم «القاعدة» في السعودية، وهنا محاولة أخرى لتتبع مرحلة التأسيس، مستهدفاً تشكيل التنظيم ككيان محلي، لا الجذور الفكرية له، مثل ما تساءل بعض المعقبين على الجزء الأول من القصة، فتقريض الطور الفكري وما آل اليه عناصر التنظيم قد أتركه لأصحاب الشأن.
وأكمل هنا، أنه بعد بلوغ شخص العييري تأسيس «القاعدة» في السعودية، بدأ أولاً باختيار أسماء بذاتها، لتكون قيادية هي الأخرى، وقد جاء اختياره لها بناءً على العلاقة المباشرة في أفغانستان، والذين أمل فيهم العييري التوافق مع نشاطه المتحرك فعلاً.
فأوكل إلى كل واحد منهم تشكيل مجموعة من الخلايا في منطقته، تعمل كل واحدة منها بمعزل عن الأخرى، وبقيت قيادات الخلايا وحدها على اتصال مباشر مع المؤسس فقط.
وهناك من الخلايا ما شكلت كاملة في افغانستان وبكافة عناصرها، ثم دخلت السعودية بكفاءة قتالية عالية المستوى في الميادين، تدعمها تكتيكات وتدريبات متنوعة، وخلايا أخرى شكلت داخليا من عناصر لم تتوفر لها فرصة الوصول إلى أفغانستان تلك الفترة.
وكان الأشخاص المؤسسون للخلايا، هم المعلنون في قائمة ال 19 مطلوبا في السابع من مايو 2003، وأبرزهم خالد حاج وعبدالعزيز المقرن، والقادة من الصف الثاني: تركي الدندني وأحمد الدخيل، وصالح العوفي، وفيصل الدخيل، وسلطان القحطاني، وآخرون لم تأت القائمة على ذكرهم، وتحفظت على نشر أسمائهم حينئذ، وقادة آخرون قبض عليهم قبل إعلان القائمة، اضافة إلى أن العييري تولى مهام اقل من مهامه كقيادي أول داخل السعودية، فقد عمل على توسيع رقعة سلطته، حيث قام بتشكيل خلايا صغيرة، وتدريبها بنفسه في المزارع وبطون الأودية، تحديدا غرب الرياض وأطراف بريدة.
ثم اكتمل الدور حينما عاد السعوديون المشاركون في أفغانستان، ابان الحرب الأمريكية على نظام طالبان في اكتوبر 2001، وبعد أن تم استجوابهم من قبل السلطات السعودية ثم غادروا السجون بعد أشهر قليلة، فقد تسلمت هذه الفئة عمليات تشكيل الخلايا ايضا، وبدأوا نشاطهم في ما تبقى من عام 2002، وتمكن كل واحد منهم من تأسيس مجموعته الخاصة والتي عن طريقه ترتبط مباشرة بالقائد الأول العييري.
في الجزء الأكثر تفصيلا من عملية التشكيل، تتضح الصورة أكثر عند تحرك هؤلاء طوال عام وأكثر من عدة مناطق، فباشروا اختيار العناصر من فئتين: الأولى من الذين سبق لهم التدريب في معسكرات أفغانستان وشاركوا في القتال، والثانية من الذين لم يحملوا السلاح بعد، ولم يتمكنوا من زيارة افغانستان مطلقاً.
نجد أن ذوي التدريب الأفغاني لم يكونوا بحاجة إلى أكثر من اعادة تهيئة، بينما تفرغ قادة الخلايا إلى الفئة الثانية بشكل أكبر، لتدريبهم عسكرياً، فكانت مواقع التدريب محددة ببطون الأودية والأماكن البرية خارج نطاق العمران.. وكان ابرز المعسكرات التي وقعت في قبضة الأمن، هو ذلك المقام في قرية عسفان في منطقة مكة المكرمة، وكشفته أجهزة الأمن مطلع عام 2003، وقبض فيه على أكثر من عشرين شخصا يدينون بفكر التنظيم وينخرطون في معسكراته.
ومع بدء أحداث العنف في الرياض في مايو 2003، بدأت خلايا التنظيم في تغيير استراتيجيتها من حيث اختيار معسكرات التدريب، فبدلا من المزارع الخارجية والأودية، اتجهت إلى الاستراحات الخاصة على أطراف المدن، وبدأت في تحويلها إلى مواقع تدريبية، لكن الحال مع تلك الاستراحات لم يستمر طويلا، إذ بدأت تتساقط الخلايا الواحدة تلو الأخرى، مما دفع القادة إلى اختيار المنازل والشقق داخل الأحياء السكنية، لتقتصر التدريبات على الدروس النظرية وبعض المهام العملية التي لا تحدث ضوضاء تثير انتباه السكان المجاورين للموقع، كالتمرينات اللياقية، والمهارات القتالية في المواقع الضيقة فيما يشبه قتال المدن.
ومع مرور أشهر على بدء الملاحقة العلنية للخلايا، تقلصت فرص عناصره في توفير مواقع تدريبية مؤهلة بشكل فاعل، نتيجة لتساقط الكثير من تلك الخلايا في الرياض خاصة، كما حدث في أحياء السويدي والشفاء، وفي استراحات أحياء المونسية والأمانة، ومن خلال الملاحقات المتسارعة والمتقنة لقوات الأمن في الشهور الثلاثة الأخيرة، بدأ ان التنظيم قد أوقف نشاط التدريبات القتالية السابقة إلا من جزء يسير في مواقع قد تكون تحت البحث والتحري أمنيا الآن، والأقرب أنها في مناطق نائية جداً، بعيدا عن المدن التي سجلت المواجهات المتكررة.
في الجزء الأول (الاسبوع الماضي) كان الحديث عن فكرة تأسيس التنظيم والتعريف بمؤسسه، واليوم عن تشكيل الخلايا، ويمكن ايجاز البناء التأسيسي للتنظيم عبر هاتين المرحلتين، وهناك فصول أخرى عدة تتحدث عن مرحلة ما بعد التأسيس، وهي أساسيات المرحلة التالية.













التعليقات