ماجد حماده ناضل للاصلاح والتغيير رغم انتمائه إلى عائلة سياسية تقليدية
الجغرافيا لم ترغمه على الخضوع والخنوع فاستبق 14 آذار بالدعوة إلى الوفاق والوحدة

حقّق في وزارة التربية ما عجز كثيرون عن تحقيقه


مارلين خليفة

منذ أكثر من 30 عاما حقّق أصغر وزير في تاريخ لبنان ثورة 14 آذار: إذ نادى بلبنان الموحّد القوي، مندّدا بالتدخّل السوري في شؤونه، مستبقا بأعوام طوائف لبنان كلّها بما فيها طائفته الشيعية. في تلك الحقبة عزله كثر من أركان 14 آذار 2005، فقضى شابا في 20 تشرين الثاني عام 1994، ولم يُنصف. انه ماجد حمادة.

ليس سهلاً أن تعيش امرأة مع رجل أحبته وأحبّها وكان "شيخ الشباب" بطلعته البهية ووسامته ونبل أخلاقه ومثالا في الشجاعة والإباء، ثمّ تراه يذوب كالشمعة بين ليلة وضحاها ليرحل الى الأبد.

لم تتقبّل ليلى الصلح زوجة ماجد حمادة هذا الأمر، وهي لا تزال منذ 11 عاما متشحة بالسواد، حزنا على رجل أحبته كثيرا وخسرته باكرا جدّا.

عندما رافقت ليلى الطالبة الشابة في جامعة القديس يوسف رئيس الوزراء الأسبق تقي الدين الصلح عام 1974 لحضور مهرجانات بعلبك، وعندما صافحت صبري بك حمادة الذي كانت تعرفه، ثمّ قُدّمت الى نجله ماجد، لم تكن تدرك تلك الفتاة الشقراء، الفاتنة الطالعة من مأساة فقد والد زعيم بيد الغدر، أن القدر يعدّ لها مسارا حزيناً وإن تخللته ومضات من الفرح والسعادة الزوجية.

لم يمرّ على زواج ليلى وماجد 11 عاما (تزوجا عام 1976) حتى بدأ المرض يفتك بصحّة الزوج، وبدأ شريط السعادة العائلية يتمزّق. صورة العائلة المثالية التي نراها في الصور: الزوج والزوجة والأولاد، راحت تتشح بالرمادي الذي استحال يوما بعد يوم قاتما. " كان ماجد شابا بهيّ الطلعة، وسيما، متواضعا لديه جرأة مخيفة"، تقول السيدة ليلى بغصّة، وينقطع شريط الذكريات الجميلة، واللقاءات الأولى، فتجد صعوبة في استرجاعها "أبعدتُ لحظاتنا الجميلة معا، ودفنتها في أبعد منطقة من الذاكرة. عقلي الباطني يرفض استعادتها، بعد غياب ماجد صرت أدفع بذكرياتي الحلوة لأنّها تقهرني، تضايقني". و...تبكيني، كلمة لم تتفوه بها السيدة ليلى.

رافقت ليلى الصلح زوجها في تقلبات حياته السياسية الأصعب، "عانينا كثيرا"... كان ماجد يحكي عن لبنان عندما كان هذا الإسم محظورا ومرتبطا بما سمّوا الإنعزاليين. ولم يتوانَ قط عن المناداة بلبنان ووحدته مندّدا بلهجة قوية النبرة بممارسات الأحزاب الى درجة أنه في النهاية إضطر الى ملازمة منزله. رفض عروضا عدة من سفراء لتزويده بالأسلحة بغية إنشاء ميليشيا، رأى أن نهاية لبنان ستكون على أيدي الميليشيات".

حورب ماجد حمادة حتى العظم فأبعد عن النيابة، وأسقط عنوة، وهمّش، لكنّه بقي صامدا رافعا الصوت في وجه الباطل ودفع الثمن مرّتين: الأولى في حياته عندما لم ينصف سياسيا، والثانية في مماته عندما غيّب وأُهملت إنجازاته التي غيّرت الكثير من معالم الدولة.

المتحدّر من الأصالة

ولد ماجد حمادة في 24 أيار عام 1945 في الهرمل. والده صبري حمادة رئيس مجلس النواب لـ25 مرّة - ووالدته زينب أحمد الأسعد. أتمّ دراسته الإبتدائية في مدرسة "نساء لبنان الإبتدائية" الغبيري، ثمّ انتقل الى "الثانوية الأهلية" ثمّ الى "الإنترناشونال كولدج"، ثم الى "الجامعة الأميركية". وبعد نيله بكالوريوس في الإقتصاد والسياسة سافر الى الولايات المتحدة لنيل شهادة الماجستير بتفوق في الإقتصاد من جامعة "جورج تاون". هناك سجّل عضوا في الوفد اللبناني الدّائم في الأمم المتّحدة. لدى حمادة 8 أشقاء: اضافة الى أخ وأخت من أم ثانية. أمضى طفولته بين الهرمل مسقط رأسه، وبين حزّين حيث مزرعة صبري حمادة وبين بيروت والمصايف. طفولته كانت عادية ولم ينتم في شبابه الى أي حزب. أحبّ الطبيعة والرياضة والأرض وكان خيّالا من الطراز الأول. كثيرا ما ردّد أمام زوجته: "أحبّ أن أشمّ رائحة الأرض وأحسّ بها، لا أحبّ ضجيج بيروت".

علاقته بوالده تصفها ليلى بـ"الممتازة"، رغم تباينات في وجهات النظر ولا سيما حين تولى حقيبة التربية، فالوالد سياسي عتيق إنغمس أحيانا في جوّ الشفاعات والمطالبات فيما ماجد خرّيج "جورج تاون". دخل عالم السياسة بدم جديد وإرادة الإصلاح، وعندما يحرج الوالد "كان يضحك مجيبا الطالبين: إبني لا يقبل"، تروي السيدة ليلى.

أنجح وزير في أصعب وزارة

تسلّم حمادة وزارة التربية في عهد سليمان فرنجية، ويجمع عارفوه على نجاحه في الوزراة التي وصفت بـ"المحرقة". كان حماده من أوائل الوزراء غير الموارنة الذين يتسلّمون حقيبة التربية، وهو لغاية اليوم أصغر وزير في تاريخ لبنان، لكّنه ربّما يكون ألأكثر إنجازا في اقصر فترة زمنية.

يجلس الكاتب بالعدل في زحلة إيلي نورية واضعا على مكتبه ثلاث صور، للسيد المسيح، للسيدة العذراء ولماجد حمادة! إنها طريقته في التعبير عن مدى تعلّقه ومحبّته لصديق لا يزال يبكيه لغاية اليوم.

عام 1968 وفي عزّ الإنتخابات النيابية تعرّف رئيس إتحاد طلاب البقاع الثانويين الى الشاب ماجد حمادة الذي ترشّح عن دائرة زحلة في لائحة برئاسة الوزير السابق والسفير جوزف أبو خاطر. "لم يكن وكأنه إبن صبري حمادة". لا يعني ذلك أنّ صبري حمادة لم يكن زعيما ناجحا وشعبيا، لكن نجله تميّز بتواضع كبير ومحبّة للتفاعل مع الناس ومشاركتهم حياتهم. أقام صداقات حميمة في الأحياء الشعبيّة الفقيرة: في زحلة المعلّقة وحوش الأمراء ومع الشباب المسيحي والشيعي الطالع. "كان ينام عندنا في حي الراسيّة وعند المختار (سابقا) خليل صدقة وعند بيت دياب المعلوف (مدير الإذاعة اللبنانية سابقا). خلق تواصلا مع أبناء زحلة لم يشهده أبناؤها قبلا".

هذا الأمر لم يكن قائما في السابق، لأنّ البقاع كان منفصلا بين "الزحالنة" و"البعلبكيين"، حيث نشأت خصومة بين المدينتين تعود الى العام 1860. عامذاك، وقع هجوم من عمش القنطار في المتين على زحلة وقتل عدد من الرّهبان اليسوعيين، فردّ "الزحالنة" بهجوم مضادّ على بريتال وأحرقوها. وبقي الودّ مفقودا الى حين أعاد صبري حمادة ومن بعده ماجد حمادة المحبّة الى الأجواء، الى درجة أنه بعد وفاته، وأثناء انتخابات 1996، نال في زحلة 1170 صوتا!

ومنذ ترشّحه عام 1968 ورغم إسقاطه من قبل المكتب الثاني كان عنوان حملته "مرشّح الشباب في دائرة زحلة".

الشفافية المطلقة هي صفة راسخة في قلب حمادة وعقله رافقته مذ ترأس المديرية العامّة للإستثمار. لم يعتبر نفسه سياسيا بل موظّفا، رافضا استقبال مراجعات البعلبكيين في مكتبه في الشياح، بل واظب على عمله الإداري يرعى مصالح الناس التي كانت مرتبطة كلّها بهذه المديرية.

في وزارة التربية الوطنية والفنون الجميلة التي شغلها في الحكومة الرقم 67 برئاسة رشيد الصلح، تمكّن إبن الـ27 عاما في 7 أشهر من تحقيق ما لم يحققه وزراء أكبر منه سنّا بأعوام. لم يلتزم دواما رسميا، وتعامل بكثير من اللياقة مع أشخاص يحملون ضعف أعوامه منهم مدير التعليم الإبتدائي نايف معلوف، والمدير العام للتعليم المهني روجيه شمالي وسواهما. حين تولّى جان عبيد حقيبة التربية الوطنية بين عامي 1996 و1998، بدأ بسماع اخبار ماجد، الوزير الذي ترك بصمات لن تمحى في هذه الوزارة التي أسميت "المحرقة". كان حضوره كبيرا لدى موظّفي الوزارة ومعاونيه ومنهم مدير مكتبه المرحوم إيلي خير الله، ولدى المعلمين في المناطق اللبنانية كاّفة. " لمست انه عمل في فترة قصيرة إنجازات أنصفت المعلمين بمطالبهم، زاد موازنة الوزارة وهي عصب لبنان، كما عزّز التعليم الرسمي لمساعدة الفقراء".

إهتم حمادة بمدارس القرى النائية في عكار وبعلبك الهرمل، وكان أوّل من أقرّ ضرورة التعاقد فيها. أسس دورا للمعلمين في تلك المناطق لتأهيل المعلمين وتدريبهم ومنها في بعلبك. أنجز مشروعا لتجميع المدارس وهو ما عرف بالمدارس النموذجية في طليا، حوش الأمراء، عكار، حمانا وطرابلس. في موازاة فتح هذه المدارس خفّض الرسوم في المدرسة الرسمية من 25 ليرة الى 13 ليرة أي زهاء 50 في المئة، تحسّسا منه بوضع الناس في القرى النائية، فأوجد المدرسة والحافز المادي للدخول اليها. كما أنه أعطى ترخيصا لإنشاء معهد عال لتدريس اللاهوت في دير البلمند عام 1975، وشكّل هذا المعهد النواة الأولى لجامعة البلمند.

الى ذلك نال الوزير الشاب موافقة مجلس الوزراء على إنشاء مصلحة فنية لتشييد الأبنية المدرسية النموذجية (لتدريب المعلمين)، معتبرا أن مديرية المباني في وزارة الأشغال العامّة لا تعيش واقع المدارس لتلائم المباني مع حاجات الطلاب والأساتذة. وإن كان هؤلاء أنصفوا في فترة من الفترات فكان ذلك ايام الوزير الشاب.

يروي أحد قادة الحركة الطالبية، وهو اليوم صحافي وشاعر معروف، لـ"النهار" أنه قصد مع وفد من قادة طلاب الجامعة اللبنانية مكتب وزير التربية ماجد حمادة، " كانت الجعبة ملأى بالمطالب، وكانت مكتوبة على ورقة ممهورة بإسم " الإتحاد العام لطلاب الجامعة اللبنانية"، حمل الوزير الورقة، وقال لي: غدا تتظاهرون، وأنا سأنزل معكم الى التظاهرة لأعلن تأييدي المطالب التي ترفعونها. صحيح أنّي وزير، لكنّ الوزارة لا تهمّني، تهمّني راحة الضمير وأن أعود الى منزلي مساء لأنام مرتاحا وغير "متعوب" الضمير. أنا معكم وإن تطلّب مني الأمر أن أستقيل من الوزارة".

ويصف هذا القائد الطالبي والشاعر المعروف حمادة بالـ" شببلك"، مضيفا:" كان حقيقيا وصارما في موقفه، وهذا الإنطباع نادرا ما نكوّنه في لقاءاتنا مع أهل السياسة".

لا يمكن إلا التطرّق الى شفافية ماجد "الذي كان يهرب من المادّة" حسبما يجمع عارفوه. رفض راتبه في نيويورك لأنه لم يتمكّن من حضور جلسات الأمم المتحدة كعضو في الوفد الدائم بسبب دراسته في واشنطن. كما رفض تقاضي مخصّصاته في وزارة التربية، ودفعه ترفعه الى رفض تسلّم اللوحة الحكومية وعليها رقمه كوزير وهو 27، بسبب عدم حبّه الظهور.

السياسيّ النبيل وتحالفاته الصعبة

كما في التربية كذلك في السياسة: شفافية ونبل في التعاطي لا مثيل لهما. يصف رفيق خوري رئيس تحرير جريدة "الأنوار" منذ العام 1975، والصحافي منذ 55 عاما ماجد حمادة بأنه "نموذج شباب 14 آذار وليس نموذج سياسييه، أي النموذج الرافض المعتزّ بالوطن. وقف في الحرب ضدّ الإنقسام الطائفي وضدّ الميليشيات وضدّ القيادات التي تحارب بدلا عن دول في المنطقة، وكان ضدّ إيديولوجيا الدّولة الإسلامية".

في السياسة إختار ماجد حمادة التحالفات الصعبة. يقول جان عبيد النائب والوزير السابق الذي تعرّف على ماجد صحافيا عام 1974 وتوطدت علاقته به على رغم الخلاف في وجهتي النظر بين الإثنين بدءا من الموقف من السوريين، يقول بصراحة:" لم يكن مطواعا في تحالفاته، كنت أختلف معه في السياسة لكني أعترف أن أحدا لم يتمكن من التسلل الى اقتناعاته، لا من جيبه ولا من أذنه، أي لا بالقوة ولا بالإغراء، كانت لديه شخصيته ومحاكاته للأمور، وعنده شجاعة في اتخاذ القرارات سواء وافقت مجموعة ما أم لم توافق".

هكذا، إرتبط ماجد حمادة بصداقة مع بشير الجميل قائد القوات اللبنانية مستبقا 14 آذار بأعوام، وهذا ما انعكس سلبا عليه وعلى علاقاته بدمشق:" تعرّف الى الشيخ بشير أثناء محاضرة في زحلة كانا فيها على تضاد سياسي، ماجد مع وحدة لبنان، وبشير مع الفيديرالية، لكنّ انفتاحه وديموقراطيته جعلاه يدخل في حوار مع بشير، وكان صديقا للأضداد جميعاً باستثناء السوريين والحركة الوطنية" تقول ليلى الصلح حمادة.

لكنّ جان عبيد يشير الى نقطة مهمّة في شخصية ماجد "الحقاني": "لم يهادن في نقده حتى "القوات اللبنانية" وحتى بشير الجميل في عزّه، قدّم ملاحظات على تعاطيه السياسي وخصوصا مع الرئيس سليمان فرنجية، ولم يرض عن الصدام بين الطرفين، ودفعه وفاؤه الى زيارة فرنجية مرارا إثر المجزرة التي أودت بنجله طوني وزوجته وحفيدته وأنصاره".

عداوة محكمة مع السوريين

حسرة ليلى الصلح اليوم أنه عندما كانت ترى زوجها يتكلم على السياسة السورية المتبعة في لبنان كان معظم السياسيين الذين ينادون اليوم بـ14 آذار يخالفونه الرأي، حتى أنّ قسما كبيرا منهم عزفوا عن دعوته الى أي نشاط. وتردف ليلى الصلح: "لو مشوا وقتها مع ماجد وعملوا شيئا، يمكن كانوا وفرّوا أمورا كثيرة على لبنان".

عرقل السوريون إمكان وصول الدولة العادلة الى هناك "لدفع العشائر الى البقاء في حالة الطلاق مع الشرعية، "حاول ماجد حماده التأقلم مع وضع منطقته من جهة وبين عقله وتفكيره من جهة أخرى، ولم يجد حلا إلا في بناء دولة تسود فيها العدالة"، يروي رفيق خوري.

لم ترغم الجغرافيا ماجد حمادة على الخضوع أو الخنوع. رغم أن الهرمل تقع على نهر العاصي في شمال البقاع في سفح الجبل الغربي، وهي تحاذي شرقا خراج بلدة رأس بعلبك الواقعة قبالته