...ويتهمون حركات سياسية باستئجار عصابات لتحقيق أهدافها

بغداد ـ عبد الواحد طعمة

لم يكن غسان، الشاب الأسمر في عقده الثالث صاحب فرن في شارع 60، أحد أكبر شوارع منطقة الدورة في بغداد، يعلم ان سيارة من بين مئات السيارات التي يعج بها الشارع تتربص به. فبعدما ركب سيارته الصغيرة ناقلاً أحد أصدقائه الى منطقة 120 في نهاية الشارع، وقبل أن ينهي مشواره، اعترضت طريقه سيارة وانهمر عليه الرصاص لتستقر في أكثر من مكان في جسده فيما قتلت رصاصات أخرى زميله وأصابت شخصاً آخر كان يرافقهما في السيارة. حدث هذا مساء أول من أمس ضمن سلسلة اغتيالات يتعرض لها أصحاب المتاجر والمحلات في المنطقة.

وفي مشهد شبه يومي اعتاد الأهالي في هذه المنطقة على مشاهدة هذه المقاطع من «دراما الموت» على مسرح شارع 60 الذي يصفه سالم بكر (35 سنة) بأنه «تنين يلتهم أبناءه». وأشار بكر، وهو صاحب محل في الشارع نفسه، الى حادث مماثل وقع الأربعاء الماضي حيث هاجم من وصفهم بـ «أهل الاوبلات» في اشارة إلى المسلحين الذين يستخدمون سيارات نوع «أوبل» ألمانية الصنع، أحد المحلات التجارية في الشارع وأمطروه بوابل من الرصاص فأصابوا أحد العمال بجروح قبل أن ينسحبوا اثر تطويق القوات الأميركية المكان والاشتباك معهم.

وأخذت «أوبل» شهرتها الواسعة في العراق من استخدام المسلحين لهذا النوع من السيارات في عملياتهم، وباتت تضاهي، بسمعتها، «هامفي» أو «أبرامز» أو «برادلي» الأميركية الأكثر كفاءة قتالية ربما في كل جيوش العالم.

أهالي منطقة شارع 60 لم يخفوا قلقهم من الوضع المتوتر فيها، حيث تسود أجواء الحذر والترقب سكان المنطقة. ويقول كمال أحمد (40 سنة) ان «لا أحد هنا يعرف متى يطاله الرصاص من بنادق الملثمين الذين يظهرون بشكل مفاجىء في الشارع ليعلن أزيز رصاصهم عن حضورهم». ويلفت أحمد، وهو صاحب محل لبيع المواد الغذائية في المنطقة، الى تساؤلات تدور في خلد الناس «بحثاً عن معنى لهذه الهجمات التي لم يتضح لها اي قاسم مشترك. فالأهداف ليست من طائفة واحدة، وكل الضحايا من الذين يكدون من طلوع النهار حتى ساعة متأخرة من الليل في متاجر متواضعة سعياً لكسب لقمة العيش».

وعلى رغم هذه الأجواء المتوترة في المنطقة، وهاجس الرعب الذي يسيطر على الأهالي، يتساءل السكان عن سبب اختفاء قوات «الحرس الوطني» من المنطقة مع اعلان الحكومة الجديدة. وعلى رغم اتهامهم هذه القوات بـ»اهانتهم» يشير سائق سيارة الأجرة كريم مالك، الذي يسكن شارع 60، إلى ان المنطقة شهدت «فترة استقرار بسيطة اثر انتشار الحرس الوطني فيها واقامته حواجز التفتيش». وأضاف «إلا ان هذا لم يدم طويلاً مع الاعلان عن حكومة الجعفري حيث اختفت هذه القوات من الشارع تماماً ورفعت الحواجز وحلت مكانها نشاطات الاوبلات».

وعند أحد زوايا شارع 60 تطالعك على الواجهة الزجاجية لصالون حلاقة للرجال لافتة كتب عليها «حلاقة شعر الرأس وتخفيف الذقن»، تماشياً مع تعليمات الجماعات المسلحة في المنطقة التي وضعت «ضوابط عمل» للحلاقين طالبتهم بمنع حلق الذقن والاكتفاء بتخفيفها تماشياً ما مع يرونه من تعليمات الدين الاسلامي.

وما ان علمت مجموعة من الشباب أنني أعمل صحافياً حتى تجمعت حولي مجموعة منهم تراوحت أعمارهم بين 18 و 22 سنة أبدوا حيرتهم وحزنهم على مقتل صديقهم غسان وكل ما يدور في منطقتهم التي يقولون عنها انها «نموذج لعراق صغير يتعايش فيها المسلمون سنة وشيعة مع المسيحيين من العرب والأكراد والتركمان»، وانهم لم يتعاملوا يوماً مع بعضهم وفق هذه المسميات، كما قال طالب الثانوية سرمد فارس. وأبدى فارس، الذي يتذكر صديقه غسان بحزن شديد، استنكاراً شديداً لما يدور في منطقته خصوصاً عمليات القتل غير المبررة، وانتقد قوات «الحرس الوطني» والشرطة لأنها لم توفر لنا الأمن» وحمّلها مسؤولية ما يجري في منطقته واتهمها بـ»عدم التدخل في حادث الاربعاء الماضي» وأشار إلى ان جنود «الحرس الوطني لم يتصدوا للمسلحين عندما هاجموا المحل وتحاشوا الصدام معهم وهربوا بسياراتهم إلى داخل الأزقة بمجرد تعرضهم إلى بعض الرصاص من المسلحين على رغم تفوق قوتهم بـ 5 اضعاف على أصحاب الاوبلات».

وأكد الطالب الجامعي مظفر حميد طالب مستوى قوة المسلحين وسيطرتهم على المنطقة. وروى لـ»الحياة» حادثة وقعت قبل ايام عندما «أحرق المسلحون شاحنة أميركية بصواريخهم ولم يتمكن الجنود الأميركيون من مجابهتهم وهربوا بعيداً عن الشاحنة وتحصنوا خلف كتل كونكريتية من رصاص المسلحين، في حين كانت النيران تلتهم جثث زملائهم الذين لم يتمكنوا من اخلائهم إلا بعد حضور الطائرات المروحية والدبابات».

أما أبو مراد، وهو ضابط سابق في الجيش العراقي، فانتقد الاجراءات الأمنية المتخذة في منطقتهم، واعتبر انها لا توفر الأمن للأهالي، وقال: «المنطقة تخضع إلى تأثيرات عدة لا سيما الجغرافية، وهي الأهم، حيث تتصل بمناطق متوترة أمنياً وغير مسيطر عليها مثل المدائن واليوسفية» التي تعتبر «قناة اتصال» مع ما يعرف بـ»مثلث الموت» جنوب بغداد حيث تتمركز في هذه المناطق مجموعات مسلحة ذات انتماءات مختلفة مثل الحركات السلفية وتنظيمات عسكرية لحزب البعث المنحل فضلاً عن عصابات امتهنت السرقة والقتل وباتت تعتاش عليها وهي تعمل الآن بالأجر وتقتل بحسب الطلب. ولم يستبعد أبو مراد ان تكون هذه العصابات تنفذ الاغتيالات لحساب حركات سياسية وارهابية تسعى إلى تحقيق أهدافها من بعيد.