الجمعة: 12 . 08 . 2005
مما لاشك فيه أن جميع الحضارات والشعوب عرفت موجات من الهجرة عبر مختلف العصور والأزمنة، كانت تتحكم فيها العديد من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية، وشكل المغرب أحد المحاور الرئيسية للهجرة، حيث توافدت عليه شعوب عديدة، ومازال إلى حد الآن محطة للهجرة إضافة إلى مصدر لها·
وبخصوص هجرة المغاربة نحو دول مثل فرنسا وبلجيكا وهولندا وألمانيا وإيطاليا، يجب التذكير أن الهجرة في البداية انطلقت بشكل عكسي من الدول الأوروبية، خصوصا من فرنسا نحو المغرب في المرحلة الاستعمارية، حيث تدفق مئات الآلاف من المعمرين الذين استحوذوا على أحسن الأراضي الفلاحية واستنزفوا الثروات المغربية وحولوها نحو بلادهم لمد صناعاتهم بالمواد الأولية، وبالمقابل قدمت فرنسا مساعدات مالية ولوجيستيكية ضخمة للمعمرين من أجل إنجاز استثماراتهم في عدد من القطاعات بمدن مغربية معروفة كالدار البيضاء ومكناس وفاس وسيدي قاسم والقنيطرة وغيرها·
وقد تعرضت اقتصادات البلدان الأوروبية للخراب بعد الحرب العالمية الثانية· فكان على أصحاب القرار في هذه البلدان، ومنها فرنسا، أن يفكروا في الخلاص، ويبحثوا عن السواعد التي بإمكانها بناء الاقتصاد المنهار، ووقع اختيارهم على استنزاف الطاقات البشرية بعد أن استنزفوا الامكانيات الطبيعية للدول المتخلفة، فلجأوا إلى تشجيع اليد العاملة على الهجرة للعمل في بناء الاقتصاد الأوروبي وأساسا في البنيات والتجهيزات التحتية والأوراش الكبرى· وقد تم الاعتماد على سياسة ممنهجة في التهجير ترتكز على اختيار مناطق بعينها في الأرياف والقرى دون المناطق الحضرية، واستمرت هذه السياسة إلى حدود السبعينيات من القرن المنصرم، وخلال هذه المرحلة، لم تعط السلطات المغربية أهمية للدور الذي يمكن أن تلعبه الجالية المغربية بالخارج في بناء الاقتصاد الوطني وضمان الإشعاع للمغرب، ومع ذلك ظل الجيل الأول مرتبطا بوطنه باعتبار أن دول المهجر لم تكن مستقرا وإنما مجرد محطات عبور، وترك معظم أفراد هذا الجيل الأسر والعائلات في المغرب وبالتالي كانت استثمارتهم وتحويلاتهم توجه بالدرجة الأولى إلى وطنهم· وأصبح المهاجرون المغاربة يشكلون قوة ديمغرافية واقتصادية، ووجهوا استثماراتهم في البداية نحو العقار، حيث ظهرت بفضل ذلك، أحياء سكنية ومدن جديدة في الفقيه بني صالح وبني ملال والبروج وخريبكة والدارالبيضاء ومكناس وفاس والناضور والحسيمة وطنجة وغيرها إضافة إلى مساهمتهم الفعالة في ضمان استقرار الساكنة في الوسط القروي بفضل مساعدة أسرهم عن طريق استمرار التحويلات و حيث تشير التقديرات إلى أن أكثر من ثمانية ملايين من المغاربة يعيشون بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من هذه التحويلات·
ثم جاءت مرحلة ثانية حيث توسعت استثمارات الجالية المغربية المقيمة بالخارج نحو ميادين أخرى غير العقار، فعملت فئة منها على نقل الخبرة والتجربة التي اكتسبتها إلى المغرب، خصوصا في الصناعة التحويلية والسياحة والخدمات والفلاحة، ومن خلال مشاريع ناجحة في العمل الجمعوي في الجنوب، حيث استطاعت المساهمة في توفير البنيات التحتية والماء والكهرباء وفك العزلة عن الكثير من الدواوير والقرى عبر دعم الجمعيات·
التحويلات ودعم التنمية
ومن المتوقع أن تشهد تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج تطورا مهما خلال هذه السنة بعدما تجاوزت في السنة الماضية 37 مليار درهم مشكلة بذلك المكون الثاني للمداخيل من العملة الصعبة بعد الصادرات، ومتجاوزة مداخيل السياحة بنسبة 40 في المائة مع تغطية أكثر من 80 في المائة من العجز التجاري خلال السنوات الأخيرة· ويستفاد من المعطيات المتوفرة أن هذه التحويلات فضلا عن تدعيمها خلال السنة الماضية، فهي تتجه نحو تسجيل تحسن ملحوظ خلال السنة الجارية، فقد سجلت القيمة الاجمالية لتحويلات الجالية المغربية المقيمة بالخارج، برسم الأشهر االثلاثة الأولى من السنة الجارية، حوالي تسعة مليارات درهم، رغم أن الأمر يتعلق بالشهور الأقل نشاطا بالنسبة لأفراد الجالية· مع العلم أن النمو المتواصل لمبلغ التحويلات لا يرتبط بالعوامل الظرفية فقط كسعر صرف الأورو مقابل الدرهم، وإنما بالتحولات التي تشهدها الجالية المغربية ببلاد المهجر على مستوى التركيبة البشرية وظروف الاستقرار، و الوضع القانوني، وهو ما يتطلب من السلطات العمومية أخذه بعين الاعتبار لرصد التوجهات المستقبلية للتدفقات المالية الناجمة عن تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج· خصوصا أن عدد الجالية المغربية المقيمة بالخارج التي يصل إلى حوالي مليونين ونصف مليون شخص، ما زال في تزايد مستمر، دون احتساب الأعداد التي تنتظر تسوية الوضعية القانونية· وتستقر غالبية هؤلاء المواطنين بأوروبا وبدرجة كبيرة في كل من فرنسا وهولندا وبلجيكا وإيطاليا و إسبانيا وألمانيا بنسبة 78 في المائة·
و تستقبل فرنسا لوحدها باعتبارها أول وجهة للمهاجرين المغاربة حوالي 40 في المائة من الجالية المغربية وحوالي 50 في المائة من تلك المتواجدة بالاتحاد الأوروبي· وتشير الدراسات إلى أن تدفقات المهاجرين المغاربة في اتجاه أوروبا شهدت بعض التغييرات خلال العقدين الأخيرين لفائدة دول جنوب أوروبا خاصة إيطاليا واسبانيا، في حين أن عدد المهاجرين المغاربة بالدول العربية لايتجاوز نسبة 14 في المائة من الجالية المقيمة بالخارج حيث تتمركز غالبيتها بكل من الجزائر وليبيا· أما عدد المهاجرين المغاربة بدول أميركا فلا يتجاوز 5 في المائة أي حوالي 120 ألف شخص، يستقرون في كل من الولايات المتحدة الأميركية وكندا باعتبارهما وجهتين جديدتين لهما جاذبية قوية، خصوصا تجاه الشباب المغربي من ذوي الكفاءات العلمية والتقنية· وتذكر المعطيات أن الجالية المغربية المقيمة بالخارج تتشكل اليوم من 40 في المائة من المهاجرين الذين لهم أقدمية الإقامة ببلاد المهجر تصل إلى 25 سنة، وحوالي 25 في المائة من هذه الجالية لها أقدمية تتراوح بين 15 و25 سنة، حيث تتعايش داخل هذه الشريحة من المواطنين أجيال متعددة من خلال تبني سلوكيات تجاه البلد المضيف والبلد الأصلي· وتفيد الدراسات أن الجالية المغربية أصبحت تتشكل من شباب حاصل على شهادات ومؤهلات بمستويات مختلفة بخلاف الشريحة التي كانت سائدة خلال سنوات الستينيات والسبعينيات· كما أن تطور تحويلات الجالية المغربية المقيمة بالخارج خلال العقدين الأخيرين، يعكس التحولات التي شهدتها هذه الشريحة من المواطنين سواء على صعيد توزيعها بدول المهجر أوعلى مستوى التركيبة البشرية و السوسيو مهنية· وبالرغم من أن أهم قسط من التحويلات يتأتى من المهاجرين القاطنين بفرنسا وبلجيكا وهولندا بمبلغ إجمالي يفوق 50 في المائة من مجموع التحويلات حسب السنوات، فإن إمكانيات جديدة لتدفق التحويلات المالية للجالية بدأت تظهر خلال السنوات الأخيرة تؤشر على حصول تحسن كبير في تحويلات الجالية المغربية المقيمة بإيطاليا والجالية المقيمة باسبانيا والولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا
تعزيز الاستثمارات
إذا كان جلالة الملك محمد السادس أقر يوما للمهاجر، فإن السلطات العمومية والمنتخبين يجب أن يجعلوا من الاحتفال بهذا اليوم حدثا مهما للجالية المغربية ومناسبة لفتح حوار فعلي و نقاش هادف بين المهاجرين المغاربة ومختلف الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين حول جميع القضايا التي تهمهم لوضع آليات جديدة تفتح أمامهم آفاق الاستثمار والتنمية في مختلف القطاعات والميادين، وخصوصا على مستوى ضمان انخراط هذه الفئة من المواطنين المغاربة في المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، والعمل على إشراكها في الدفاع عن مصالح المغرب الحيوية وقضاياه الوطنية والمصيرية· كما أن الجالية المغربية المقيمة بالخارج في حاجة ماسة إلى وجود آليات مؤسساتية وتنظيمية وقانونية لحماية حقوقها ضد مختلف أشكال التمييز والعنصرية، وتوفير شروط الاندماج والتعايش الإيجابيين في مجتمعات الاستقبال دون الانسلاخ من الهوية الوطنية، حتى لا يضطروا للاندماج القسري في دول الإقامة·
وتستدعي الضرورة توفير عناية خاصة بأفراد الجالية المغربية المقيمة بالخارج بإحداث مراكز لاستقبالها ومعالجة مشاكلها في بعض المرافق العمومية والخاصة الأكثر احتكاكا بها كالمحاكم ومصالح وزارة العدل والبنوك والمحافظة العقارية وغيرها، فمن غير المعقول أن يزور المهاجر وطنه للاستجمام وزيارة العائلة ليجد نفسه تائها في مكاتب هذه المرافق·
لقد أصبحت تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج موردا مهما من العملة الصعبة تساهم في توفير احتياطي للدولة يقدر بحوالي 13 شهرا·والضرورة تستدعي من الدولة تعزيز تدابيرها الهادفة لتشجيع الجالية بما يضمن توجيه التحويلات نحو استثمارات توفر فرص الشغل وتخلق الثروة وترفع من معدل النمو لربح رهانات التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة·
صحيفة ''العلم''













التعليقات