الخميس: 01 . 08 . 2005
إذا كانت الكتب قد أصبحت عاجزة عن صنع الثورة ، فثمة من يذهب في عكس الاتجاه الذي يراه المفكر الفرنسي ريجيس دوبريـه ، فمجرة جوتنبرج إلى توسـع، وعصر البلاغة الإلكترونية على وساعته لم يفت من عضد الكتاب و لم يكتب هزيمـة المثقف، فلا يزال المثقف يطمح إلى قول كلمة حق كما يطمح إلى ذلك إدوارد سعيد وكثيرون غيره. أو في وجه إمبراطورية جائرة تمهد إلى غزو العالم .
وهذا يعني أن الأفكار ما زالت تقود العالم، وأن للكتب دوراً كبيراً في تغيير العالم وفي صنع الثورات في عالم شيمته الكيل بمكاييل عدة، وأن أولوية العمل يجب أن تسبق أولوية النظر، فالمدينة تحترق وبالأخص المدينة العربية التي يغمرها طوفان الاستبداد والاحتلال والفقر و الجهل و التهميش والموت المجاني دون أن تلوح بالأفق أية حمامة من شأنها أن تبشر بأن طوفاناً بدأ يتقهقر وأن أراضي جديدة بدأت تظهر .
في هذا السياق لا يمكن للقراءة الشرهة إلا أن تطل باستمرار، من داخل المدينة وذلك بحجة الدفاع عن الحق والمدينة معاً، وسرعان ما تجد لها أتباعاً ومريدين يرفعون راياتها الخفاقة ومعادلاتها المستحيلة الحل والتي ما زالت تستقطب آلافاً من المريدين. وشاهدي هذه المرة هو الكتاب الأكثر مبيعاً في العالم كما وصفته نيويورك ريفيو أوف بوكس بتاريخ 7 نوفمبر 2002 العدد 78 . وأقصد كتاب الإمبراطورية «إمبراطورية العولمة الجديدة« لمؤلفيه مايكل هاردت وأنطونيو نيجري و المترجم إلى الآن إلى أكثر من (12) لغة عالميـة، منها اللغة العربية، حيث صدرت طبعة الكتاب الأنيقة عن دار العبيكان في الرياض.
الكتاب كما أسلفت، شاهد عيان، على الكيفية التي تصنع بها الكتب الثورات، وعلى قدرة الأفكار على تغيير العالم. وقد حظي الكتاب بهالة من التقريض، فهو كتاب غير عادي وخارق للعادة كما جاء وصفه، واعتبر من قبل البعض على أنه أحد أذكى وأعمق التفسيرات السياسية الخالصة المتوافرة حتى الآن لظاهرة العولمة: وأنه إنجاز عبقري يثير الدهشة، وأنه يقدم «تحليلاً جارفاً لا يقاوم و محطماً لأصنام العالم المعولم«.
في التعريف بالمؤلفين من قبل النسخة العربية والنسخة الإنجليزية، أن الأول أي مايكل هاردت هو أستاذ في جامعة ديوك في الولايات الأمريكية. أما الثاني أنطونيو نيجري فهو باحث مستقل و أستاذ للعلاقات السياسية في جامعة باريس وبادو في إيطاليا.
التعريف الذي سقته، هو تعريف ناقص، بالأخص فيما يتعلق بـ«أنطونيو نيجري« القائد السياسي والمنظر الاستراتيجي في صفوف الحركة العالمية الاحتجاجية المناهضة للعولمة، لا بل أن مجلة نيويورك ريفيو أوف بوكس قالت إن أحد الاتهامات الموجهة إليه، هو أنه كان بمثابة «العقل الاستراتيجي وراء الألوية الحمراء« فالرجل حكم بالسجن ودخل السجن مع نهاية عقد السبعينيات من القرن المنصرم مع ثمانمائة من أعضاء تنظيمه، بالأصح من أتباعه. ولكن هذا لم يزد إلا في نجوميته،فقد اعتبر نجما فكريا لامعا، وذا جاذبية كاريزمية كما تقول المجلة الأمريكية. وقد أطراه أكاديميون من بركلي وبوينس إيريس ولندن وباريس وفي عالمنا العربي.
إذا سمحنا لأنفسنا بالانتقال من جاذبيته الكاريزمية إلى جاذبيته الفكرية التي تقدم تحليلا جارفا لا يقاوم للعولمة على حد تعبير أحدهم. فما يؤخذ على الكتاب هو نفس ما يؤخذ على كتاب دوبريه «ثورة في الثورة« والذي اعتبر في حينه دليل عمل كما أسلفت، وفتوحات كونية ثورية تساهم في إسقاط الأنظمة الرأسمالية والإمبريالية ،فكتاب نيجري نظر إليه على أنه يمثل اعتداء تحريضيا على العولمة وبخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، وأن الكتاب نموذج للكتابة الشريرة التي من شأنها أن تسمم جيلا بأكمله، دافعة عشرات الآلاف من الشباب إلى المتاريس لتدمير أنفسهم من أجل «ثورة شيوعية« ما كانت ممكنة على الإطلاق كما تقول المجلة الأمريكية.
من «ثورة في الثورة« لدوبريه إلى الإمبراطورية، ثمة قراءة شرهة تستبطن رؤية الآخر المريد الذي اندفع إلى السجن كما يرى دوبريه،أو إلى المتاريس (بعشرات الآلاف) كما أراد نيجري أو الآخر المضاد كما قرأ الكثير من الأكاديميين والمثقفين عملي دوبريه ونيجري وكما صنفتهم دوائر الإمبراطورية وتوابعها التي أصدرت تعليماتها إلى وزراء الداخلية بمنع هذه الكتب، وهذا ما يفسر منع كتاب دوبريه في معظم البلاد العربية بعد أن صدرت طبعته البيروتية و كذلك كتاب أنطونيو نيجري الذي صدرت طبعته الأولى في كوريا الشمالية أولا قبل أن تصدر نسخته الإيطالية كما أسلفنا.
بالرغم من أن كتاب «الإمبراطورية« يتخذ موقفاً نقدياً شديداً من الرأسمالية، إلا أنه على العكس من القراءات الشرهة له التي جعلته في خانة المعادين للعولمة والولايات المتحدة الأمريكية (حيث يحلو للكاتب توماس فريدمان صاحب كتاب «ليكساس و شجرة الزيتون، فهم العولمة، 1999« أن يربط العولمة بالأمركة، فأمريكا وحدها استطاعت أن تمتطي صهوة نمر العولمة) مع أن الكتاب يرحب بالعولمة معتبراً أنها أفضل بكثير من الرأسمالية التي اعتبرها لينين ذات مرة أعلى مراحل الاستعمار ويتبنى خياراً ديمقراطياً وبديلاً يجب البحث عنه، إلا أن القراءة الشرهة له من قبل الدوائر الإمبراطورية حالت دون ذلك .
في هذا السياق، يمكن القول إن القراءة العربية لكتاب «الإمبراطورية« كانت قراءة شرهة بامتياز، فقد اعتبر الكتاب دليلا جديداً لليسار العربي، و منهلاً لا ينفكون من العودة إليه في إطار ما سماه أحدهم بـ«الاستقبال المأتمي للعولمة«، فالمثقفون العرب الذين فشلوا في تعديل معادلة العولمة راحوا يعلقون فشلهم على مشجب العولمة، وكان هذا مزيداً من الهجاء للعولمة التي اعتبرت فزاعة، وتم تعقل العولمة على أنها فخ كما يشهد على ذلك الكتاب الموسوم بهذا الوسم «فخ العولمة« وهذا ما يشهد عليه السجال الدائر من حولها والذي هو فرصة ثمينة للإيديولوجيا الماركسية المأزومة والإيديولوجيا القومية المنحسرة، اللذين مارسا باستمرار مزيداً من القراءة الشرهة إلى تجديد نفسيهما.
التعليقات