الإثنين:09. 01. 2006

عيون واذان
جهاد الخازن

بقيت في لبنان أسبوعاً حول الأعياد الغربية، وتركت وأخونا الكبير غسان تويني يرشح نفسه في انتخاب نيابي فرعي لشغل المقعد الذي خلا باستشهاد ابنه جبران، وهو مقعد كان شغله قبل نصف قرن.

laquo;النهارraquo; أهم من مقعد في البرلمان، وكنت أتمنى لو ان غسان تويني اعطى الجريدة التي نحبها جميعاً ونحترمها وقته كله، فمقعد جبران الذي شغر في laquo;النهارraquo; يحتاج الى من يملأه، ولا أحد غير غسان تويني يستطيع ان يؤهل هذا الخلف، رجلاً أو امرأة، ليضمن استمرارية جريدته.

أنا من عمر اذكر معه laquo;النهارraquo; عندما كانت مكاتبها في سوق الطويلة (laquo;الحياةraquo; بدأت في غرفة هناك تجمع الصديقين كامل مروة وغسان تويني، و laquo;الأوريانraquo; كانت في آخر الشارع مقابل مطعم العجمي، قبل أن تنضم الى منافستها لتصبح لوريان لوجور). أما غسان تويني فبدأت معرفتي الشخصية به سنة 1968، ولم تنقطع يوماً، وحتى اليوم. وفي حين ان نيابته سبقت أيامي، فقد تابعته في فترة أهم جاءت بسليمان فرنجية رئيساً، وبغسان تويني نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً لثلاث وزارات سنة 1970.

النيابة ليست laquo;في عينraquo; غسان تويني، فقد شغلها ثم شغل مناصب رسمية اكبر منها، وأعرف انه يفضل من بينها لقب السفير الذي يذكّره بعمله سفيراً لبلاده لدى الأمم المتحدة في نيويورك. أخونا غسان سأل وهو يرشح نفسه للمقعد الارثوذكسي الشاغر في بيروت من يقدر على الاستمرار في حمل الرسالة التي تسببت في اغتيال جبران، ومن الأقدر على الحفاظ على التمثيل الأقرب الى إجماع بيروت التي كان ابنه نائبها.

أوافق غسان تويني على الجواب، ثم أصر على ان laquo;النهارraquo; أهم. ورأيي في أخينا غسان وجريدته ليس مرتبطاً بعاطفة طارفة ازاء والد فقد ابنه البكر، فهو مسجل غير مرة، وقد وصفته بعد ان كرّمه نادي دبي للصحافة قبل سنتين بأنه أحد آخر أمراء الصحافة، ولا أزال عند رأيي، فهو أمير صحافة بأدبه وعلمه وأخلاقه.

أتوقف قبل ان تغلبني العاطفة لأكمل بـ laquo;لبنانياتraquo; بعد اسبوع في بيروت أعاد اليّ ذكريات كل ما أحب فيها.

كان الطقس جميلاً، بل مذهلاً، فلم تهبط الحرارة نهاراً او ليلاً عن 15 درجة مئوية ولم ترتفع عن 22 درجة، والسماء زرقاء أو توشّحها غيوم متناثرة. لو كان الطقس مما يُشرى ويُباع، لما استطاع احد ان يدفع ثمن طقس اجمل، وقد تغيرت اشياء كثيرة في لبنان منذ تركته قبل 30 سنة، إلا أن الطقس صمد لكل المتغيرات، ولم تستطع القنابل والرصاص والصواريخ ان تغيّر منه شيئاً، فنحن من منطقة تنعم بأربعة فصول في السنة، لذلك نقول laquo;تشتّيraquo; ونعني laquo;تمطرraquo; كما لا يستطيع بريطاني مثلاً، حيث المطر في أي يوم، خصوصاً يوم بدء بطولة ويمبلدون.

مع ذلك لم يستطع الطقس الجميل ان يمسح الحزن او القلق عن الوجوه، والكل يخاف المجهول او ما هو مقبل.

أرجو ان يكون الحزن، او القلق، عابراً، فقد رأينا مثلهما في السابق ولأسباب مختلفة، ففي لبنان تتغير اشياء كثيرة، باستثناء الطقس، ثم يبقى كل شيء على حاله.

وعاد اليّ غسان تويني، والاشياء التي تتغير ثم تبقى على حالها، وأنا والزميل غسان شربل في ضيافة السيدة نايلة معوض، عضو البرلمان ووزيرة الشؤون الاجتماعية، على غداء الاسبوع الماضي، فقد انتقلنا من حديث الى حديث، وسمعتها تقول انها تفهم ان الوظائف الكبرى تقسم بين الطوائف، ليكون لكل طائفة نصيبها، ولا يزعم أحد انه غُبن في القسمة. الا انها لا تفهم ان ترشح طائفة عنها لمنصب كبير حساس رجلاً (او امرأة) لا صفة له غير انتمائه المذهبي، مع وجود مؤهلين في الطائفة نفسها.

وعاد بي حديثها الى غسان تويني وخريف 1970، فهو وجد بين حقائبه الوزارية وزارة التربية والتعليم، فكان عملها أصعب ما واجه تلك السنة الصعبة التي انتهت بقطيعة مع الرئيس وحرب اعلانية على laquo;النهارraquo;. وهو شكا لي يوماً، وكأنه يحدِّث نفسه، من ان بعض الطوائف يعاني عدم نجاح عدد كافٍ من المعلمين في المسابقات الرسمية لملء الوظائف المخصصة للطائفة، وهو يفضل ان تبقى مدارس منطقته بلا معلمين، على ان يشغل الوظائف المخصصة للطائفة معلمون من مذاهب اخرى. ومن 1970 الى 2005 تتغير اشياء كثيرة في لبنان، ثم يبقى كل شيء على حاله.

غسان تويني لم يصمد مع سليمان فرنجية سوى مئة يوم، واعترفت له بعد سنوات انه عندما بدأ يشكو لي من تصرفات الرئيس اعتقدت انه laquo;يتبهورraquo; علي، فكيف يشكو وهو صحافي أصبح فجأة نائباً لرئيس الوزراء يحمل ثلاث حقائب وزارية. الا انه استقال وفاجأني، وعلمني شيئاً عن اخلاقه بقي معي.

أخونا غسان، مثل الطقس، لم يتغير، غير ان البلد تغيّر، وقد ذهبت قبل اسبوعين لرؤية السيد حسن نصر الله، الأمين العام لـ laquo;حزب اللهraquo;، في الضاحية، وعدت اليها الاسبوع الماضي لاجتماع مع الحاج حسين خليل، معاونه السياسي، ودخلت من طريق وخرجت من طريق، من دون ان أعرف أين انا في منطقة عرفتها صغيراً كبيراً، من برج البراجنة الى حارة حريك والشياح والغبيري. وكم من القراء رأى مثلي عند الجزارين في برج البراجنة ذبائح من الجمال، والجمل من الضخامة انه يعلق من قرب سقف المحل وتصل رقبته الى الارض.

سأعود الى حديث الضاحية قريباً، أما اليوم فلا أقول سوى انني استيقظت في الثامنة صباحاً في لندن، ووجدت الطقس معتماً حتى انني شككت في ان أكون اخطأت في تغيير الساعة بعد عودتي، غير انني لم اخطئ، وانما أخطأ طقس لندن، وأكمل غداً.