الثلاثاء:10. 01. 2006

مايك ويتني


(أنّى لإنسان أن يبرر خدمته في عسكر الولايات المتحدة؟)

تتضافر الأدلة المدعمة بالوثائق كلها والمستندات، بدءاً بتلك التي جمعتها منظمة مراقبة حقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية وانتهاء بما أعدته الهيئة الدولية للصليب الأحمر وحشد هائل من تقارير أخرى لشهود عيان لتبرهن دون أدنى شك أن الولايات المتحدة ضالعة والغة عن سابق عمد وتصميم بارتكاب أفظع ما يتصوره العقل من انتهاكات بحق السجناء ومنغمسة عن قصد بجرائم تعذيب وامتهان يشيب لهولها الولدان. ويستمر نظام التعذيب ويواصل اقتراف أبشع الأعمال لأن قادة العسكر يؤمنون الحصانة والدرع الواقية التي تمنع الرأي العام من التدخل ويحول بينه وبين طرح تساؤلاته والتعبير عن هواجسه. والمسؤولون العسكريون هم الذين يسوغون التعذيب ويسهلون أمره وهم ldquo;الذين يمكنون الزبانية من الجند والعناصر المتدنية الرتب من رقاب الضحايا في المعتقلات. ولولا ما يوفره هؤلاء القادة من دعم لتداعت أركان هذا النظام وانهارrdquo;.

وعليه يثور السؤال، إذ كيف يسوغ لامرئ مواصلة الخدمة في هذا النظام وهو يعي هذه الحقائق ويدركها؟

الجنود لا يقسمون يمين الولاء لجورج بوش أو لعصبة التآمر الذين استولوا على السلطة بعد أن امتطوا صهوة نظام انتخابي خرب مهترئ وفاسد، لقد تعهدوا برفع لواء دستور الولايات المتحدة عالياً وصيانته، والدستور في جوهره وثيقة من وثائق حقوق الإنسان تعلن وتعرض بأسلوب بياني بليغ معايير الحريات المدنية والدعائم التي تقوم عليها وتصف أسس العدالة الاجتماعية وتشدد على حكم القانون. وحقوق الإنسان لا تتغير بمجيء رئيس جمهوري إلى سدة الحكم، وأي من كان يتربع على رأس السلطة فإن الجنود مطالبون باحترام المبادئ التي حلفوا يمين إعلائها والعمل بمقتضاها.

وبذا يتبين بجلاء أن الخدمة في صفوف عسكر الولايات المتحدة أمر مناف للأخلاق ويصادم المبادئ الحقة. وها هو نائب الرئيس، وهو رجل نبذ الناموس الأخلاقي منذ سنوات خلت، وقد استأنف قبل بضعة أيام حملته للترويج لاستخدام التعذيب من قبل وكالة الاستخبارات الأمريكية ldquo;سي.آي.إيهrdquo; فكانت حملة لا تبقي ولا تذر وتسوّغ التعذيب، وتحض عليه، ومسلكه الخسيس هذا المثير للازدراء والذي أوردت التقارير الدقيقة عنه كبريات المؤسسات الإعلامية جميعها، وأورث هذا غمّاً وكدراً ونغّص حياة نحو 79% من عامة الأمريكيين الذين مازالوا يرفضون استخدام التعذيب ldquo;لأي سبب كانrdquo; وتثبت أفاعيل نائب الرئيس أن إساءة معاملة السجناء وامتهانهم ليس بالحالة الفردية أو الأمر العرضي الشاذ بل هي سياسة ونهج أصيل تعتمده الإدارة الأمريكية.

فهل لأجل هذا يواصل الرجال الخدمة في صفوف العسكر: كي يدافعوا عن النشاطات الإجرامية التي تمارسها النخبة في أوساط كبريات الشركات الأمريكية؟

لا يجري في عروق تشيني قطرة دم أمريكية واحدة، إنه عضو مفوض في منظمة متعددة الجنسيات اختطفت جيش الولايات المتحدة وسخرته لخدمة مآربها الشخصية وجعلت منه جهازاً لا يأبه سوى بالأمن الشخصي لهذه الشرذمة ولا يخدم إلا أغراضها ومخططاتها (ثم أليس هذا هو معنى النظام العالمي الجديد؟) فلا الحرب في العراق ولا سجون التعذيب التي يحبذها تشيني ويأمر بفتحها والزج بالأبرياء فيها بالتي تخدم مصالح الولايات المتحدة ومصالح مواطنيها. والمستفيد الوحيد من هذه الحرب هي ldquo;إسرائيلrdquo; وشركات النفط العملاقة.

لذا نسأل: أي مسوغ هو ذاك الذي يبرر لنا الخدمة العسكرية في هذا الجيش وخوض هذه الحرب؟

لدينا الآن إثبات يمكن التحقق منه على أن الولايات المتحدة استخدمت أسلحة محظورة بما فيها القنابل المحرقة الأشنع فتكاً من النابالم والقنابل العنقودية وغيرها من الأسلحة الكيماوية ldquo;غير المحددةrdquo; في حصارها للفلوجة.

سلوا أنفسكم هذا السؤال وتدبروا ما يمكن أن تكون الإجابة عنه: من ذا الذي أمر باستخدام النابالم في الفلوجة؟

وهل يعقل أن يجازف عقيد متدني الرتبة أو جنرال بأربعة نجوم بمستقبله وسيرته المهنية وشرفه العسكري من أجل الإقدام على أمر لا ضرورة له في خضم الهجوم مثل استخدام أسلحة محرمة دولياً؟ لقد صدر الأمر باستخدام النابالم في الفلوجة من مكتب ذاك القائد الأعلى المتزعم في البنتاجون، واعتقد أنه لم يؤشر باستخدام النابالم وغيره من الأسلحة المحرمة أحد سوى دونالد رامسفيلد ذاته، وإن لم يكن الأمر على هذا النحو فليثبت براءته في لاهاي.

لا يجوز بحال من الأحوال أن يخدم الأمريكيون في الحرب في العراق. وثمة مبدأ اسمى وأنبل من مجرد الانصياع لأوامر القائد الأعلى المسؤول. ولا ينبغي إطلاقاً أن يوعز إلى إنسان قتل إنسان آخر دونما حق أو سبب وجيه. وحتى الآن أخفقت الإدارة الأمريكية في تقديم أي أساس منطقي عقلاني لشنها هذه الحرب أو الاستمرار في هذا الاحتلال القائم حتى اللحظة، وفكرة قتل امرئ في بلده من أجل ldquo;تحريرهrdquo; إنما هي فكرة لا أخلاقية بادية العورات مفضوحة. تماماً كما هو غير أخلاقي أن يخدم المرء في أي جيش ينغمس عن قصد في عدوان غاشم لم يسبق أن استفز لشنه وهو يمارس التعذيب وإذلال البشر ويرتكب جرائم حرب.

ألقوا أسلحتكم، فالزج بكم في السجن خير لكم وأقوم سبيلاً إذ من الأفضل للمرء أن يفقد حريته من أن يخسر كرامته وعزة نفسه.

* كاتب ومحلل سياسي يعيش في ولاية واشنطن.