الجمعة:13. 01. 2006
خيرالله خيرالله
لم تكن ثمة حاجة الى الأنتظار طويلاً للتأكد من أن ما حصل في 13 يناير- كانون الثاني من العام 1986 كان زلزالاً سياسياً بكل معنى الكلمة. لم يهز الزلزال اليمن فحسب، بل هزّ أيضاً المنطقة المحيطة بها ً. هز الزلزال منطقة الخليج وهز الضفة الأخرى من البحر الأحمر أي القرن الأفريقي. وفي لحظة الزلزال، فهم قليلون أن للحدث ابعاداً دولية تتجاوز اليمن والمنطقة، نظراً الى أن ما وقع في ذلك اليوم كان ألدليل الأوّل على بدء انهيار الأتحاد السوفياتي... وقد أحتاج انهيار القوة العظمى الثانية في العالم خمس سنوات أخرى ليصبح أمراً واقعاً.
قبل عشرين عاماً بالتمام والكمال، وقعت أحداث 13 يناير في ما كان يسمّى quot;جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبيةquot;. وقتذاك، كان رئيس الدولة في جنوب اليمن علي ناصر محمد. والأهم من ذلك أن علي ناصر كان يشغل موقع الأمين العام للحزب الأشتراكي اليمني الذي لم يكن يختلف في شيء عن الأحزاب الشيوعية التي كانت تحكم دول أوروبا الشرقية وتتحكم بها لمصلحة الأخ الأكبر الذي أسمه الأتحاد السوفياتي. كانت اليمن الجنوبية جزءاً لا يتجزأ من المنظومة الأشتراكية. كانت في الواقع العملي استثماراً سوفياتياً في منطقة أستراتيجية أرادت القوة العظمى الثانية في العالم أن تمتلك فيها موطئ قدم يجعلها على مشارف منابع النفط في دول الخليج وخطوطه. وبكلام أوضح أتاح الوجود العسكري للأتحاد السوفياتي في اليمن الجنوبية أن يكون على حدود المملكة العربية السعودية التي كانت ولا تزال أكبر منتج للنفط في العالم.
أنفجر الوضع في عدن يوم 13 يناير 1986. احتدم الصراع على السلطة بين quot;الرفاقquot; طوال أشهر عدّة، وغدر علي ناصر بخصومه قبل أن يغدروا به. كان مفترضاً ان يحضر كعادته أجتماعاً دورياً للمكتب السياسي للحزب في مقر اللجنة المركزية في حي التواهي في عدن. ولكن بدل أن يحضر، أرسل حراسه على رأسهم حّسان(شاب من ردفان) لقتل خصومه الذين كانوا أعدوا خطة للأنتهاء منه، حسب رواية أنصاره. وما يمكن أن يوفّر لهذه الرواية صدقية معينة، أن الأ طراف المتصارعة كانت مستعدة للمواجهة العسكرية. وفي المجزرة التي التي وقعت في مقر اللجنة المركزية، حيث كان مفترضاً أن ينعقد أجتماع المكتب السياسي، قُتل نائب الرئيس علي عنتر الذي لم يتوقف عن التحريض العلني على علي ناصر منذ فترة طويلة وذهب الى حدّ توجيه تهديدات مباشرة له. كذلك، قتل صالح مصلح قاسم وزير الدفاع وعلي شائع هادي وزير الداخلية. وفي المعركة التي قتل فيها الثلاثة اصيب حسّان في مقتل وفارق الحياة بعدما أفرغ رصاصات رشاشه الصغير في اجساد الخصوم المباشرين لرئيس الدولة والأمين العام للحزب في تلك الأيام. ومن المفارقات أن معظم الذين حضروا أجتماع المكتب السياسي كانوا يحملون أسلحة بما يدل على مدى الثقة المتبادلة بين الرفاق في الحزب الواحد. وكانت النتيجة ان الدماء غطت ارض الغرفة التي كان مقرراً ان تستضيف الأجتماع. وظلت رائحة الدم تنبعث منها الى ما بعد أسبوعين من المجزرة.
نجا من المجزرة عدد من أعضاء المكتب السياسي بينهم علي سالم البيض وعبد الفتاح اسماعيل. لكن الأخير قضى على الأرجح لدى محاولته الأنتقال في عربة عسكرية مصفّحة الى مكان آمن بعيدا عن مقر اللجنة المركزية في التواهي أذ أصيبت العربة بقذيفة أطلقت من حاجز أقامه رجال البحرية الموالين لعلي ناصر. وكان قائد البحرية آنذاك أحمد الحسني الذي تربطه علاقة مناطقية بعلي ناصر. أمّا البيض الذي صار لاحقاً الأمين العام للحزب الأشتراكي، فقد أستطاع الوصول الى مكان آمن على الرغم من أنه اصيب برصاصة في بطنه في أثناء محاولته الأبتعاد عن مكان المجزرة سالكاً طريقاً أخرى غير التي سلكها عبدالفتاح أسماعيل.
ما بدأ بمجزرة قبل أنعقاد اجتماع للمكتب السياسي تخلّف عنه علي ناصر الذي أنتقل سرّاً الى مسقط رأسه في محافظة أبين فيما أرسل سيارته وحارسه الشخصي الى مكان الأجتماع بقصد التمويه، تحوّل الى حرب أهلية تواجه فيها رفاق الأمس عبر القبائل التي ينتمون اليها. وخرج علي ناصر خاسراً من تلك الحرب التي قضت عملياً على النظام في الجنوب.
مع مرور الزمن، يتبين أن أحداث 13 يناير 1986 لم تكن مجرد صراع على السلطة بين تكتلين ينتمي كل منهما الى مناطق معينة في اليمن الجنوبية، وحتى في ما كان يسمى اليمن الشمالية قبل الوحدة، نظراً الى أنه كان هناك تكتل شمالي داخل الحزب الحاكم في الجنوب. ما يتبين اليوم هو أن الصراع الذي أحتدم بين الرفاق كشف قبل كل شيء أن ألاتحاد السوفياتي بعد سنة من وصول ميخائيل غورباتشوف الى السلطة لم يعد قادراً على التحكم بالأوضاع في دولة بعيدة تدور في فلكه، حتى لا نقول دولة ذات نظام من صنعه. افلتت الأمور من يد السوفيات في تلك المرحلة. ويروي مسؤولون سابقون في عدن أن صراعاً خفياً كان يدور بين الأستخبارات المعروفة بquot;كي.حي.بيquot; وهي تابعة للحزب وبين الأستخبارات العسكرية التي بقيت مؤيدة لعلي ناصر الذي سعى الى نوع من الأنفتاح الداخلي من جهة وعلى الجوار من جهة أخرى. وكان الدليل الأبرز على مدى الوهن الذي بدأ يعاني منه الأتحاد السوفياتي أن يخت ملكة بريطانيا، في ذلك الحين، ساعد في أخراج مواطنين سوفيات وجدوا نفسهم وسط المعارك التي شهدتها عدن. لم يستطع الأتحاد السوفياتي التدخل حتى من أجل انقاذ مواطنيه، فيما تدخلت بريطانيا التي كانت تحكم جنوب اليمن قبل نيله الأستقلال في العام 1967 كاشفة أنها لا تزال لاعباً ولو ثانوياً في المنطقة... كانت احداث عدن الدليل الأول الملموس على أن العالم بدأ يتغيّر جذرياً وان الأتحاد السوفياتي في الطريق الى خسارة الحرب الباردة بعدما فشل في أنقاذ النظام في اليمن الجنوبية.
على الصعيد الأقليمي، كانت أحداث 13 يناير بداية النهاية لأول وآخر نظام ماركسي يقوم على أرض عربية. وقد أدى فشل التجربة في ما كان يعرف باليمن الجنوبية الى جعل دول الخليج، التي كانت لبعضها حساسية خاصة تجاه كل ما له علاقة بالأتحاد السوفياتي، تتنفس الصعداء. أكثر من ذلك لم يمض وقت طويل الاّ وأنهار نظام آخر مشابه على الضفة الأخرى من البحر الأحمر هو نظام منغيستو هايلي مريم في أثيوبيا. وثمة ملاحظة أخيرة في هذا المجال ، أي الصعيد الأقليمي للحدث، تربط بين أنفجار الوضع في عدن وأحتدام المعارك بين العراق وأيران وقتذاك وأرتباط بعض القوى في الجنوب بعلاقات ما مع النظام الأيراني أدت الى توفير قواعد لأطلاق نوع معيّن من الصواريخ كان هذا النظام في أشدّ الحاجة اليها!
على الصعيد اليمني، كان هناك رئيس شاب أسمه علي عبدالله صالح، يتمتع ببعد النظر، يراقب من الشمال والوسط أحداث الجنوب. كان سهلاً على من يتولى السلطة في ما كان يعرف بquot;الجمهورية العربية اليمنيةquot; التدخل عسكرياً في الجنوب، أقله من أجل تصفية حسابات قديمة مع نظام أكد بأستمرار أن لديه طموحات في كل أنحاء اليمن. كذلك، كان سهلاً على من يحكم في الشمال التدخل بحجة أن حرباً اهلية تدور في الجنوب وأن لا بد من حقن الدماء بين الأخوة في الوطن الواحد. لكن شيئاً من ذلك لم يحصل. تغلّبت الحكمة على كل ما عداها. حافظ علي عبدالله صالح على هدوئه. ولم تمض أربع سنوات الاّ وأنهار النظام في الجنوب من تلقاء نفسه. تحققت الوحدة من دون أراقة نقطة دم. لم تنقذ الوحدة أهل النظام في الجنوب فحسب، بل أنقذت أيضاً اليمنيين من صراعات طويلة تغذيها قوى خارجية، صراعات هم في أشد الغنى عنها... صراعات كان يمكن أن تحول اليمن الى صومال آخر لولا تحقيق الوحدة.
بعد عشرين عاماً على احداث 13 يناير، يتبين بوضوح أن الحدث لم يكن مجرد حدث عادي على الرغم من أن الذين تورّطوا فيه لم يدركوا في البداية معناه وأبعاده يمنيا وأقليمياً ودولياً. كان المؤشر الأول الى بداية أنهيار الأتحاد السوفياتي والمؤشر الأخير الى أن الوحدة اليمنية ستتحقق لا محال.
التعليقات