الجمعة:20. 01. 2006

سير سيريل تاونسيند

منذ أن اعتلى رئيس الوزراء الإسرائيلي إرييل شارون عرش السياسة الإسرائيلية قبل خمس سنوات إثر فوزه في الانتخابات وهو يتحكم في موازين السياسة الإسرائيلية باقتدار ويدير شؤونها رغم المشاكل والاضطراباتmiddot; لكن الشخص ذاته يمر اليوم بوعكة صحية خطيرة أدخلته أحد المستشفيات بمدينة القدس بعدما تعرض لجلطة دماغية حادة أرغمته على الخضوع لعمليات جراحية متكررة في الدماغmiddot; وحتى لو حالفه الحظ هذه المرة وخرج سليما ومعافى، فإن مساره السياسي وصل إلى النهايةmiddot; وقد تصادفت الأزمة الصحية لشارون مع اندلاع اضطرابات سياسية تهدد التعايش الهش بين الفلسطينيين والإسرائيليين وتنذر بعودة العنف مجددا إلى ساحة الصراع بين الطرفينmiddot; وإذا لم يتم رسم طريق واضح للمسار السياسي بين الجانبين في المستقبل، فإن الهوة السياسية ستستمر في الاتساع بينهما، ما قد يؤدي إلى تقويض التهدئة بين الطرفين وعودة الوضع إلى المربع الأولmiddot;
وفيما يتعلق بأرييل شارون الذي يطلق عليه الإسرائيليون بتودد خاص اسم ''البلدوزر'' فإن العديد من المعلقين الغربيين ينظرون إليه على أنه سياسي من الوزن الثقيل قادر على المضي قدما في طريق السلام بعزيمة صلبة وإرادة لا تلينmiddot; ويذهب المعلقون الغربيون إلى أن شارون هو السياسي الوحيد من الجناح اليميني الذي يحظى بثقة الإسرائيليين وإجماعهم حول آرائه الخاصة بالقضايا الحساسة المتعلقة بالأمن، وبأنه الوحيد من بين السياسيين الذي يمتلك القدرة والسلطة معا لعقد صفقة مع الفلسطينيين وإرغامهم على قبولها، رغم تحفظاتهمmiddot; وفي هذا الإطار يحلو للمراقبين والمعلقين أن يشبهوا شارون بديغول في تعامله مع الجزائر، ونيكسون مع الصين، أو تشبيهه برئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق ميناحيم بيجن أثناء انسحابه من سيناءmiddot; بيد أن إيال أراد، المستشار الاستراتيجي لأرييل شارون أدلى بتصريح السنة الماضية لصحيفة ''ذي تايمز'' في 23 نوفمبر يفند ما سبق، حيث نقلت الصحيفة على لسانه قوله ''لقد طرأ تحول أساسي وجوهري على أفكار أرييل شارون طيلة السنة الأخيرة، وخرج بخلاصة أن صيغة الأرض مقابل السلام لن تؤدي إلى إنهاء الصراع مع الفلسطينيينmiddot; فقد أراد شارون أن ينهي النزاع بتعهده السماح للفلسطينيين بإقامة وطن قومي لهم شريطة ضمان الأمن للمواطنين الإسرائيليين الذين عانوا كثيرا من العنف خلال الخمس سنوات من عمر الانتفاضة الأخيرة''middot; ويمكنكم أن تلاحظوا في هذا التصريح المطول عبارة ''وطن قومي'' بدلا من كلمة دولةmiddot;
من جانبه وصف لورد جاردون السياسي البريطاني أرييل شارون سنة 1986 بأنه ''متطرف قاس وخطير''، وهو الوصف الذي أتفق معه تماما، حيث يعبر عن الحقيقة الفعلية لشارون، هذه الحقيقة التي تدفعني إلى إبداء معارضتي القطعية لسياسات الجنرال طيلة سنواته السبعة والسبعين بما تخللها من بطش استمر إلى غاية دخوله المستشفى للعلاجmiddot; ومن وجهة نظر أوروبية سيبقى شارون مجرم حرب اقترف الكثير من الفظائع في حق الشعب الفلسطيني مقتربا في ذلك من جرائم الحرب التي ارتكبها جنرالات يوغسلافيا السابقة الذين نراهم في قفص الاتهام بالمحكمة الدولية بلاهايmiddot; ومع ذلك مازال هناك بعض الصحافيين الذين يتهيبون من تسمية الأشياء بمسمياتها معتبرين أن أخطاء شارون إنما تنتسب إلى ماض ولى بدون رجعة، وأنه تغير بعد دخوله المعترك السياسيmiddot; وتذكرني هذه التبريرات الواهية بتلك التي يسوقها المدافعون عن نظام صدام حسينmiddot;
وإلى وقت قريب لم تصدر عن أرييل شارون أية إشارة تدل على اهتمامه بحياة الفلسطينيين وضرورة استفادتهم من الرخاء الاقتصادي والحياة الكريمة، خصوصا إذا كان يرغب في توفير الأمن للمواطنين الإسرائيليينmiddot; ورغم التحركات الأخيرة التي قام بها مثل تفكيك المستوطنات في قطاع غزة، إلا أنه لم يعلن بعد موافقته الصريحة على إقامة دولة فلسطينية ذات حدود معترف بها عالميا، بما في ذلك القدس الشرقية كجزء من حدودها الشرعية تكفل للفلسطينيين السيطرة على الأماكن المقدسة الإسلامية في المدينة العتيقةmiddot; وعلى العكس من ذلك خلف شارون وراءه تركة ثقيلة تمثلت في بناء الجدار العازل الذي يخترق الأراضي المحتلة ويقضم أجزاء مهمة منها، فضلا عن مساندته لإقــامة المزيد من الوحدات الاستيطانية غير الشرعية في الضفة الغربية متجاهلا القرارات الدولية في هذا الخصوصmiddot;
وإذا كان شارون قد استطاع ترسيخ مكانته العسكرية كجندي جريء ومقتدر، إلا أنه خلف وراءه أيضا سمعة سيئة كعسكري شرس وعديم الرحمةmiddot; فقد قاد المجموعات العسكرية التي استهدفت الفلسطينيين داخل إسرائيل في سنوات الخمسينيات، فضلا عن إشرافه على اجتياح لبنان سنة 1982 عندما كان وزيرا للدفاع في إسرائيل، ثم الدور الكبير الذي لعبه خلال مذابح صبرا وشاتيلا، حيث حملته لجنة تحقيق إسرائيلية ''المسؤولية غير المباشرة'' على المذابح التي ارتكبت في حق الفلسطينيين أثناء اجتياح لبنانmiddot; وفي سنة 1998 خطب في المستوطنين حاثا إياهم على احتلال ''المزيد من التلال، والتوسع في المناطق الفلسطينية''middot;
وجاءت القشة التي قصمت ظهر البعير أثناء الزيارة التي قام بها سنة 2000 للحرم القدسي الشريف تحت حراسة مكثفة لأكثر من ألف جندي إسرائيليmiddot; وقد شكل ذلك التصرف الأرعن الشرارة التي أطلقت الانتفاضة الفلسطينية وما تلاها من عنف واغتيالات أمر بها شارون في حق شخصيات قيادية فلسطينيةmiddot; وبدلا من السعي إلى القبض على المتورطين في تنفيذ العمليات ضد إسرائيل، كان يحتفظ بالمشتبه فيهم دون عرضهم على المحاكم، ويمعن في تنفيذ سياسة الاغتيالات التي لا تفرق بين الشيوخ والأطفال ملحقا الكثير من الأذى بالمدنيين العزلmiddot; كما ساهم شارون في تقويض البنية التحتية للسلطة الفلسطينية ليسجل اسمه في التاريخ كأحد القادة الذين يحتقرون القانون الدولي ويخرقونه في كل لحظةmiddot; وحتى فيما يتعلق بالخطوة الأخيرة التي أقدم عليها شارون بالانسحاب من قطاع غزة لم تكن، في الحقيقة، سوى عملية مبتسرة وصفت بأنها مجرد ''التزام جزئي بالقانون الدولي جاء في إطار عام من القمع والتنكيل''، وهي لم تطرح قط للنقاش مع الفلسطينيين، ولم يستشاروا بخصوص مضمونهاmiddot;
وبعدما تم الانسحاب من غزة نقل عن شارون قوله للمستوطنين المغادرين إن تضحياتهم لم تذهب سدى، بل ستساهم في تعزيز القبضة الإسرائيلية على الضفة الغربيةmiddot; ولم يأت الجلاء من قطاع غزة، إلا بعدما أدرك شارون التكلفة الباهظة التي تتكبدها إسرائيل جراء بقاء مجموعة من المستوطنين المتطرفين تحت حماية ثمانية آلاف جندي إسرائيليmiddot; ورغم أن شارون وزملاءه يسعون إلى الالتفاف حول صيغة الأرض مقابل السلام ورفضها بالتخلي عن غزة في مقابل السيطرة على الضفة الغربية، إلا أن المجتمع الدولي ما زال ينتظر سحب إسرائيل لقواتها من الأراضي التي احتلتها في 1967 تماشيا مع القرارات الدوليةmiddot; لذا فإنه لا يجوز النظر إلى الشعب الفلسطيني على أنه دمية في يد إسرائيل والولايات المتحدة، كما أن المسألة لا تتعلق بكرم وسخاء الدولة العبرية اتجاه الفلسطينيين، بل بحقوق ثابتة تهدف إلى تحقيق التحرر والسلامmiddot;