القانون في حيرة
أريك بوسنير
ترجمة: نجم والي
لنفترض أن محاكمة صدام، التي ستبدأ بعد يوم غد، الثلاثاء (24 كانون الثاني)، ستنتهي بسرعة وبسهولة في هذه السنة دون أية أحداث يمكن أن تقف في طريقها. القضاة والمحامون سيتصرفون بطريقة لائقة مثل جنتلمانات، وسيُدافع صدام عن نفسه، بدل أن أن يستغل محاكمته لإستعراض عضلاته. أما الشهود فسيدلون بشهادتهم وبشكل رائع، في الوقت الذي ستؤيد إفاداتهم كل الوثائق المقدمة. ولن يشك أحد بأدلتهم، التي تبين كيف أن صدام ورفاقه من المتهمين معه مسؤولون بالفعل، من الناحيتين القانونية والأخلاقية، عن أحداث قرية الدجيل. ولنفترض في النهاية، أن مجريات المحكمة لن تضاعف من حدة التوتر بين المجموعات الأثنية والطوائف ولن تتعارض مع قضية إستكمال كتابة الدستور... وسيصدر الحكم على صدام حسين في الجلسة الأخيرة بما يقتضي الأصول ثم يُعدم في نهاية المطاف.
بغض النظر عن السؤال المطروح، ما إذا كانت عقوبة الإعدام مبررة أم لا، فإن محكمة من هذا الطراز هي لوحدها نجاح باهر. فالمحكمة ستلبي المطالب الأخلاقية لعدد لا يُحصى من ضحايا صدام حسين(...). صحيح أن المحكمة ستشكل نجاحاً قانونياً، لأنها ستثبت أيضاً، أنه بالرغم من الفوضى القائمة تحت ظل دولة ضعيفة ومفككة، يمكن القيام بمحاكمة رئيس دولة. لكن يظل السؤال الذي يحتاج إلى إجابة: هل ستشكل المحاكمة هذه نجاحاً سياسياً للعراق، في زمن هو في أمس الحاجة لمثل هذا النجاح؟ الجواب على هذا السؤال يبدو أكثر تعقيداً وهو يرتبط، بوجهة نظر السائل: ما إذا كان يأخذ الآفاق العالمية للمحكمة بنظر الإعتبار، أم أنه سيركز النظر على حاجات العراقيين وحسب.
من وجهة النظر العالمية، فإن اليسار، سواء اليسار في أوروبا أو في الولايات المتحدة الأميركية، يتفاعل مع هذه المحكمة بمشاعر متضاربة. من ناحية سيكون صدور عقوبة قانونية ناجحة بمثابة تقوية للقانون الدولي، لأنه سيثبت للرأي العام، من جديد، بأن من الممكن معاقبة رؤساء دول بسبب جرائم ضد الإنسانية. من الناحية الأخرى، فإن محاكمة صدام لم تصبح ممكنة من دون اللجوء للقوة عن طريق عدوان عسكري غير شرعي، صاحبته في الحقيقة جرائم حرب، مثل تعذيب السجناء في سجن أبي غريب. هذا يعني أن محاكمة ناجحة لصدام حسين، ستحمل بالضرورة رسالة تقول: إن من الممكن أن تقود عمليات عسكرية من طرف واحد إلى تثبيت قانون العقوبات الدولي. هذه الرسالة تأتي مناسبة جداً على مقاس الحكومة الأميركية، لأنها سترتكب في المستقبل خروقات ضد القانون الدولي، في الدول التي تريد إحتلالها. في الوقت نفسه، فإن ذلك سيسبب الكثير من الامتعاض في صفوف اليسار، الذي لا يثق بالولايات المتحدة الأميركية منذ زمن طويل، والذي حاول أن يلجم تدخل أميركا عن طريق القانون الدولي.
أما بما يتعلق بمعسكر اليمين، قبل كل شيء، اليمين في الولايات المتحدة الأميركية، فإنه ينظر أيضاً للمحاكمة بشعور مضطرب. فلا يخفى عليه مثلاً أن القانون الدولي لا يفرق بين دولة هي بمثابة قوة عظمى مثل الولايات المتحدة الأميركية ودولة ضعيفة مثل العراق. وإذا أرادت الولايات المتحدة الأميركية إقناع العالم بأن نجاح محاكمة صدام حسين يبرر التدخل الأميركي، فإن ذلك سيلزم أميركا مستقبلاً بالموافقة على إنزال العقاب بأية حكومة تخرق القانون الدولي. وهذا سيتعارض مع أسباب أميركا في خوضها لحروبها. فحتى اليوم، فرضت أميركا حقها بأخذ القضية على عاتقها منذ عقود بإعلان الحرب من طرف واحد على أساس الحق بالدفاع عن الأمن القومي. في العديد من هذه الحروب كانت هناك جرائم سواء مفترضة أو مثبتة بالدلائل، من الممكن أن تستدعي مطاردات المسؤولين عنها، حتى أعلى هرم القيادات السياسية.
وعدم موافقة أميركا واعتراضها على تشكيلة هيئة المحكمة الدولية في لاهاي يعتمد على الفكرة التي تقول، بأن على قانون العقوبات الدولي أن يستثني ملاحقة العسكريين والمدنيين الأميركان، الذين يتهمون بإرتكاب جرائم حرب؛ هذا يعني أن على القانون الدولي أن يخضع لسياسة الأمن القومي في أميركا. فضلاً عن ذلك، فإن محاكمة ناجحة لصدام حسين ستبرر إلى حد إستخدام العنف في العراق، لكن أيضاً ستتعارض أيضاً مع الإدعاء الأميركي، بأن قيادتها السياسية ذاتها لا تخضع للقانون الدولي.
محاكمة صدام تضع إذن المعسكرين في حيرة. ولا تصلح في هذا السياق محاكمات قريبة شبيهة مثل محاكمات نورنبيرغ وطوكيو، أو أيضاً محكمة سلوبيدان ميلوسوفيتش. ما يصلح في هذا السياق بصورة جيدة، هو محاكمة أدولف آيشمان في إسرائيل، في بداية الستينات. في ذلك الوقت نجح عملاء إسرائيليون باختطاف آيشمان من منفاه الأرجنتيني، وخرقوا عن طريق ذلك مبادئ القانون الدولي. شُحن آيشمان على متن طائرة إلى إسرائيل، وأُعدم هناك في النهاية quot;بسبب جرائمه في تنظيم الهولوكوستquot;. محكمة آيشمان وضعت العالم كله في حيرة. فمن ناحية لم يكن هناك من يستطيع رفض المحاكمة، دون أن يهين ضحايا الهولوكست. في الوقت نفسه، لم يكن هناك من يستطيع دعم المحاكمة، لأنها خرق للقانون الدولي. لكن، وتلك هي الحقيقة، كانت لدى الأغلبية رغبة بنسيانها؛ اليوم نحتفل بمحاكمات نورنبيرغ، لكن ليس هناك من يحتفل بمحاكمة آيشمان.
بالضبط لا يستطيع أحد إدانة محاكمة صدام حسين، دون أن يهين ضحاياه؛ ويكفي أن نطرح سؤالاً هنا: ما هو البديل للمحاكمة؟ لا أحد يعقل إطلاق سراح صدام حسين، إذا أردنا تخفيف العنف في العراق. أما تقديمه لمحكمة دولية فلن يزيل مصاعب المسؤولية الأخلاقية، التي لا تأتي من شكل المحكمة وطبيعتها، إنما من الطريقة التي تمت فيها عملية إلقاء القبض عليه. وهذا ما يوضح لماذا خفتت الأصوات التي كانت تطالب سابقاً بدعم دولي لمحاكمة صدام أمام محكمة دولية. ليست هناك محكمة دولية تريد أن تدوّخ رأسها بالمشكلة، بكيفية التصرف مع متهم تم إلقاء القبض عليه ليس عن طريق إحتلال أجنبي وحسب، إنما عن طريق إحتلال يشكل خرقاً للقانون الدولي الذي تستند عليه المحكمة الدولية.
المشكلة هي إذن أن المرء لا يدين محاكمة صدام، لكنه في الوقت نفسه لا يستطيع دعمها دون تحفظ، دون أن يحط من قيمة مبادئ القانون الدولي وحق الشعوب في الأمم المتحدة. ما العمل إذن؟ في هذا السياق، من الممكن أن تكون محاكمة آيشمان صورة نموذجية لنا: محاكمة لا تنسجم مع تناقضاتها التي تحملها. من المستحسن للمرء أن ينسى المحاكمة مباشرة. وذلك ما سنفعله في أكثر الاحتمالات.
فضلاً عن ذلك، فإن المشاكل تلك هي مشاكل تخص الأسرة الدولية، ولا تخص العراقيين. إنها ليست مشاكلهم. العراقيون سيعملون كل ما في وسعهم لكي يدعو لتذكر محاكمة آيشمان، التي شكلت آنذاك نجاحاً سياسياً كبيراً بالنسبة لإسرائيل. فقد شكلت تلك المحاكمة نقطة تحوّل جعلت الرأي العام يعترف بضحايا الهولوكوست وقدرهم، بدل أن يتجنبهم. من الممكن أن تلعب محاكمة صدام دوراً شبيهاً. فهي ستكون بمثابة نقطة تحوّل تاريخي يلغي فيها العراق تقاليده الأوتوقراطية ويبدأ بعدها بالدخول للديموقراطية. طبعاً من الممكن أيضاً أن تشكل المحاكمة تراجعاً، في حال استدعائها عنفاً لاحقاً. لكنها إذا نجحت، فمن الممكن أن تصبح للعراقيين ذات معنى أخلاقي وسياسي. وبالنسبة لبقية العالم ستكون دعامة لذاكرة مفيدة، إن لم تكن غير مريحة، تقول: إن مطالب القانون الدولي وأخلاقياته ليست متوافقة دائماً بالضرورة، مع مطالب وحاجات شعب عانى طويلاً.
المؤلف بروفيسور في كلية القانون في جامعة شيكاغو وقد صدر له أخيراً: quot;حدود القانون الدوليquot; (أوكسفورد، 2005)
التعليقات