علموه الانحناء
توجان فيصل- كاتبه اردنية

عندما رفعت اسعار المشتقات النفطية في الأردن قبل شهرين، شغلت البرامج الصباحية للتلفزيون الأردني بمواعظ لربة البيت بخفض الغاز اثناء الطبخ، باعتبار أن إهمال ربة البيت، وليس سياسات الدولة، هو المتسبب في رفع فاتورة النفط . ومقدم البرنامج في التلفزيون الرسمي، المبرمج جيدا من قبل الحكومة، لم يتنبه إلي ان رفع أو خفض شعلة غاز الطهي هو من احد اهم خطوات عملية الطهي التي المرأة فيها هي '' المعلمة ''، وأن الإخلال بدرجة الحرارة، بالرفع او الخفض ، يتلف الطبخة !!

والآن، وبعد ظهور نتائج الرفع الأول علي مستوي معيشة الغالبية الساحقة من الشعب، وليس الفقراء فحسب، ومع اقتراب موعد الرفع التالي الموعود ( او بالأحري المتوعد )لأسعار الوقود في الشهر المقبل، عادت حملة مكثفة موجهة تحت عناوين '' مكافحة غلاء المعيشة ''، تطالب الناس في الحقيقة '' بالتعايش '' مع الفقر و ''توطينه ''.. ولكن '' التوطين '' هذه المرة، بعكس إرشادات الطبخ، هو بعض ما تتقن الحكومة تطبيقات الأخري الأهم بحيث يحدث دون أن يشعر به الناس مباشرة، ليس قبل أن يصبح واقع حال لابد من '' التعايش '' معه هو الآخر !!

وكعينة من الحملة الإعلامية الجديدة، نجد عنواناً رئيسيا عن '' مكافحة غلاء المعيشة ''، ولكن العنوان المطبوع بخط أصغر بكثير هو '' نصائح الجدات تتوارثها ربات بيوت يبدعن في ترشيد المأكل والملبس '' . ويجدر التوقف عند كلمة '' يبدعن '' هذه . ''فالإبداع '' و '' التميز '' هي بعض العناوين التي شاعت مؤخراً في الأردن ضمن الخطاب الرسمي في مواجهة البطالة بالذات، وذلك ضمن توجه لإدارة السياسة والإقتصاد وكافة شؤون الدولة عن طريق ''الشعار والترميز'' (المأخوذين عن النهج الأمريكي في الحملات الإعلامية، وهو نهج بيناه في مقالة لنا علي موقع ''الجزيرة نت '' اواخر الشهر الماضي بعنوان '' الأردن إلي اين '' )، وذلك في اعتماد الحل الإعلامي، كما المعركة الإعلامية، محل الحلول الملموسة علي الأرض .

وشعارات '' الإبداع والتميز '' تزامن طرحها مع أخري عن '' تقوية وتمكين المرأة '' و ''إشراكها في الإنتاج ومواقع صنع القرار'' طرحت استجابة لطلب امريكي مباشر هذه المرة، بعد أن اختزل مشروع '' دمقرطة الشرق الأوسط'' إلي هذا الشعار لإفراغه من مفهومه السياسي ( عرضت لهذا ايضاً في مقالة علي الجزيرة نت بعنوان '' هل تصبح المرأة حصان طروادة '' ) . وإذا نظرنا إلي ما يطلب من المرأة '' إبداعه '' من جهود التعايش مع الفقر ضمن ما يسمي بحملة'' مكافحة الغلاء''، يتضح لنا مدي التناقض بين متطلبات ''الإبداع والتمكين '' وبين هذا الذي يطرح الآن . فما يطرح كفيل ليس فقط بهدر كل طاقات المرأة علي ''الفتات'' والأنشطة ''الترقيعية''، بل هو إيذان بالتراجع عن كل أسس ومقومات ''التنمية'' الإقتصادية بمفهومها العصري الذي يهدف أولاً '' لرفع مستوي معيشة الإنسان '' وليس خفضها، وما يطرح هو عودة بعجلة إنتاج المرأة علي الأقل إلي حالة بدائية هي حتي دون ''الحرفية'' التي كانت سائدة في عصور ما قبل التكنولوجيا الحديثة.

وهذا ينقلنا لإطار الصورة الأكبر. فمقاومة أمريكا الشرسة لأية محاولة للعالم الثالث لامتلاك تكنولوجيا نووية لا يقتصر علي بعده التسليحي، فهذا تكفي فيه تكنولوجيا بسيطة لامتلاك السلاح البيولوجي والكيماوي، والأخيران هما الأسهل استعمالاً والأكثر فعالية في حروب من يسمون ''بالإرهابيين '' . ولكن ما تخشاه امريكا هو المنافسة الإقتصادية . فمحاولات فرضها لإتفاقية حرية التجارة الدولية، في حين هي اكثر من يخرق هذه الإتفاقية، هو توظيف للواقع الإنتاجي المتخلف في العالم الثالث لصالحها . ويجدر بنا ان نتذكر هنا إعلان امريكا أن من اهم أهدافها وإنجازاتها التي حققتها عبر حصار العراق وقصفه المستمر لتدمير بنيته التحتية، انها '' اعادته إلي القرون الوسطي وإلي ما قبل عصر الصناعة والتكنولوجيا '' . كما يجدر أن نتذكر أن المشاريع '' التنموية '' التي تدعمها وتمولها أمريكا (مباشرة او عن طريق الأمم المتحدة) في العالم الثالث هي المشاريع الحرفية، أي البدائية المستهلكة للجهد البشري دون مردود يذكر، والأهم، دون منافسة علي الأسواق العالمية .. اي أنها تلهيه بالركض وراء تحصيل القروش من هذه المشاريع، مثله مثل توفير القروش في نصائح الحملة الإعلامية الرسمية التي تواكب حملة الغلاء والإفقار المتأتيين إما من القرارات السياسية والإقتصادية الخاطئة أو نتيجة الفساد، في الأردن كما في غالبية الدول العربية .

وبداية نورد الكنية التي اختيرت لنساء مفترضات، يزعم انهن ''المبدعات '' في النهج الذي سنعرض له . فواحدة أسميت'' أم عبدالله '' والثانية ''أم خلف ''، ليس '' أم رامي أو شادي أو نبيل '' كما هي الأسماء الشائعة للأبناء منذ أكثر من ثلاثة عقود علي الأقل . ومن نصائح '' أم عبدالله وام خلف '' أن تقوم النساء بتجميع فتات الخبز والناشف منه ووضعه في الثلاجة لطبخه '' الفتة '' (هنالك نية للحكومة لرفع أسعار الخبز وليس لرفع الدعم عنه كون هذا جري سابقاً )، وسلق الخضار التي علي وشك التلف ووضعها في الفريزر ( لا تعرف كاتبة المقال المسمي تحقيقاً ان غالبية الأسر الفقيرة لا تملك فريزر، وأن عدداً ممن يملكونه أوقفوا تشغيله نتيجة رفع اسعار الطاقة أو لأنه خلا من الطعام) .. وتوصي أم عبدالله وام خلف بغسل وحفظ الألبسة والأحذية لحين تناسبها مع مقاس الولد التالي (لا تعرف الصحفية هنا ان الأحذية تجف وتتلف وأن الموديلات تتغير بحيث تورث معها الطفل او الفتي عقدة نقص) وبقص وخياطة الملابس القطنية لاستعمالها مماسح (الصحفية لا تدري ان هذا جار دون حاجة لأية خياطة، ولكن في ذهنها صورة المماسح الجاهزة المربعة ) .. وتنصحان بعدم رمي ''الطبيخ البايت'' ( هذا مع ان النساء المعاصرات العاملات هن من لا يرمين الطبيخ البايت، بينما في الماضي كان الرجل هو الذي يصر علي وجبة طازجة من يد زوجته قعيدة البيت إلا في حالة الفقر، والفقر أدخل ثقافة الأكل من الحاويات،والتي أسقطتها الصحفية من نصائح ام عبدالله وأم خلف لأسباب سياسية أهمها تصريحات ''خدام'' التي تعرف الصحفية أبعادها ولا تعرفها أم عبدالله وأم خلف المزعومتان) .. وتنصحان '' كلتاهما '' بالاستفادة ولو من اصغر مساحة في حديقة المنزل وزراعتها (كافة القرويين يزرعون الأرض حول بيوتهم، أما في المدن فالبيوت شقق الأرضية منها مواقف سيارات مرصوفة بالإسمنت لآخر شبر.. باستثناء الفلل التي سكانها ليسوا العينة المستهدفة من هذه النصائح)!!

اما إعادة استعمال علب البلاستيك والمرطبانات الزجاجية، الجاري في كل البيوت بالحد المطلوب، فيسمي هنا '' إعادة تدوير أشياء المنزل '' وينصح بها أستاذ الأنثروبولوجيا د. محمد الطراونة ( ليس أبو عبدالله أو أبو خلف هذه المرة )، مع ان الأسر الجديدة ليس فيها أدوات قديمة يعاد تدويرها، والأدهي ان الدولة لم تعتمد نهج ''إعادة تدوير النفايات ''، بل تركت جموع الفقراء ينبشون الحاويات بحثا عن علب المشروبات الغازية التي يعاد بيعها للمصانع.. أثناء البحث عن بقايا الطعام!! ولكن نصائح الدكتور تتجاوز هذا '' التدوير ''إلي التنبيه إلي أهمية السلوك ''العقلاني'' الذي يعتمد أفضل إشباع '' ممكن '' للحاجات من خلال الإستخدام الأمثل للوسائل المتاحة بحيث تقل مصاريف الأسرة .. ولا يتم التطرق لأية '' عقلنة '' لاستخدام المسؤولين '' للوسائل المتاحة '' لهم وحدهم، وغير المشروعة لأنها ملك الشعب وليست ملكاً لهم، لإرضاء حاجات تم التفنن في اختلاقها والتطرف بها إلي حد اصبح بذخهم وبذخ ابنائهم '' غير العقلاني'' مادة دائمة للصحافة العالمية، السياسية منها وليس فقط الصحافة الصفراء !!

ويجري الاقتباس من دراسة أعدتها الدكتورة سامية الجندي رئيسة علم النفس في جامعة الأزهر (مما يؤكد ان الواقع العربي واحد وحلوله المروج لها واحدة ) ونشرت علي موقع إسلام اون لاين، فتشديدها '' علي'' ضرورة'' إشراك الطفل أيضاً في '' تحمل مسؤولية الظروف الإقتصادية ''للأسرة''!! ولا أريد ان ان اتكهن فيما يخص الموقع ومدي ارتباطه بالإسلام ''الحكومي'' المرضي عنه في كافة الدول العربية، وإن كنت أستطيع ان اجزم بان الكل يعرف، عبرالأدب والأفلام والمسلسلات المصرية، كيف يتحمل أطفال مصر '' مسؤولية '' الظروف الاقتصادية دون حكوماتهم او ابناء أعضاء الحكومة الوارثين هم ايضاً لكافة مناصبها وامتيازاتها .. وأضيف أنه، ومنذ ما قبل الإفقار المتأتي من سلسلة رفع الأسعار الأخيرة في الأردن، كان عندنا أطفال يتناوبون علي وجبة الإفطار يوماً بعد آخر، بحيث تكرر إغماء الأطفال في المدارس نتيجة الجوع، وهذا غير غياب الطفل الذي لم يفطرعن المدرسة اساساً لأنه يتناوب علي الحذاء او ''المريلة'' مع شقيقه أو شقيقتها .. ولا يمكن تخيل كم حذاء ومريلة قديمة يلزم أن يستغني عنها أطفال اي قطر عربي مفقر لدفع فاتورة أحذية مسؤول كبير واحد، أو سيارة إبنه، او فاتورة مصمم أزياء زوجته !!!

هذه الوصايا للنساء أعادت لذاكرتي الأبيات الختامية لقصيدة '' كلمات سبارتاكوس الأخيرة '' (قد تكون لصلاح عبد الصبور او لأمل دنقل )، والتي تقول، علي لسان سبارتاكوس في وصية لزوجته: '' وإن رأيتم طفلي الغافي علي ذراعيها بدون ذراع .. فعلّموه الانحناء.. علموه الانحناء ''!!