الخميس:26. 01. 2006

ميشيل كيلو


قبل كل خطاب يلقيه الدكتور بشار الأسد، تنزل إلى سوق السياسة شائعات تتحدث عن توجه نحو الانفراج الداخلي، طال انتظاره، سيعلن عنه الخطيب. خلال كل خطاب، يجلس السوريون مستبشرين أمام التلفاز، ليتابعوا الكلام ويقرؤوا ما وراءه. وبعد كل خطاب، يقال لهم: سيكون الانفراج في المرة القادمة. لقد حالت الضغوط والمؤامرات دون إعلان ما يريد الرئيس إعلانه كرجل إصلاحي يحب أن يعيش البلد في أجواء من الراحة والحرية.

سبقت خطاب الدكتور الأسد الأخير موجة شائعات واسعة حول الإصلاح، مال الناس إلى تصديقها، بعد أن تم قبل يومين من لقاء الرئيس بالمحامين العرب إطلاق سراح خمسة من معتقلي ربيع دمشق، وشاع كلام كثير عن وعد بإطلاق سراح عارف دليلة وكمال اللبواني والشيخ رياض درار ونزار رستناوي ومحمد ديب، وبدعوة هؤلاء إلى حضور جلسة افتتاح مؤتمر المحامين العرب، ستليها خطوات وبشائر سارة سيعرّج الأسد عليها في خطابه.

يستمر هذا الخطاب المطمئن منذ خمسة أعوام ونصف العام: عندما وصل الأسد إلى الرئاسة بالطريقة المعروفة، قيل إن عهده سيكون بداية جديدة بالنسبة إلى النظام القائم، لأنه ليس مسؤولا عما وقع في الماضي من أحداث ومآس، ولن يواصل سياسة لم يكن له يد فيها، وليس من الضروري أن يتحمل نتائجها. في تلك الفترة، قال رياض الترك، المعارض السوري المخضرم، إن العرب كانت تعتبر العدل مصدر شرعية الحاكم، ونحن لا نطلب غير العدل، ولن نقيس أحدا بغير مقياسه. لكن الرئيس تبنى النظام الذي ورثه، وألزم نفسه به، وحافظ على بنيته، وقاتل من أجل الإبقاء على سياساته اللبنانية والفلسطينية والإيرانية، بينما غير سياساته العراقية، وأيد نظام صدام، وقلب الإصلاح من استراتيجية إلى مسألة تجريبية قال إنها ستكون بطيئة، في حين أبقى على علاقات السلطة بالمجتمع في الداخل، وتبنى سياسة تقوم على الردع والتحكم والقمع.

لماذا خلا خطاب الدكتور الأسد من أية إشارة إلى ما كانت الشائعات قد وعدت به ؟ يرتبط الجواب عن هذا السؤال بأمرين: إن الداخل غير قادر على ممارسة ضغط فعال من أجل التغيير، وإن أوراق النظام الخارجية تقتصر على إيران والمقاومتين العراقية والفلسطينية وحزب الله، وهذه جميعها قوى مقاتلة، تعطي الأولوية للعامل الخارجي على الداخلي، وتعتقد أن الإصلاح سيضعف مواقعها في المعركة، وتالياً قوتها، لأنه سيبدل أولوياتها، التي يجب التمسك بها وتعزيز موقعها من سياساتها وخياراتها، عوض التخلي عنها لمصلحة برنامج ليس له مكان في مواجهة حاسمة، أداة السياسة فيها السلاح وليس الإصلاح، ومكانها الخارج لا الداخل.

هذه النظرة تعطي الأولوية لضبط الداخل وتقييد قدرته على التحرك الحر. وهي ليست صحيحة، لأن المجتمع الحر، القائم على الانسجام والتفاعل بين المحكوم والحاكم، أقدر على مقاومة الأخطار الخارجية، لكنها تقف وراء امتناع النظام السوري عن ملاقاة شعبه في منتصف الطريق، وعن قبول مصالحة وطنية تقترحها المعارضة، توحد البلاد وتحميها، أساسها حرية الشعب وتوافق الحاكمين والمحكومين على وضع يرد غائلة الأخطار الخارجية، ويرمم أوضاع البلد تدريجيا ودون عنف أو تطورات مباغتة. تعتقد قيادة سوريا أن تحالفها مع إيران وحزب الله والجهاد وحماس والمقاومة العراقية يحميها، وأنها لا يجوز أن تفقد تركيزها على ما يتطلبه من تعبئة داخلية أساسها تعزيز النظام القائم. هذا الاعتقاد هو الذي يحول، في تقديري، دون البحث عن بدائل للسياسات والخيارات الرسمية الراهنة. يؤمن النظام أن الوقت ليس وقت تغيير، مهما كان نوعه أو كانت خطواته، ويرى أن مهمة السلطة كانت خلال السنوات الخمس الماضية الحفاظ على دور سوريا الإقليمي في وجه الضغط الخارجي، واليوم، وبعد خروج الجيش السوري من لبنان، صارت المهمة الإفادة من قوى إقليمية تقاتل أمريكا والعدو لحماية النظام من السقوط.

هل هذه السياسة صائبة، وهل هي خيار البلد الوحيد ؟

ثمة ملاحظتان:

ليست سوريا الطرف الأقوى في ما سيعرف من الآن فصاعدا المحور الإيراني/ السوري، ودورها في حماية إيران وحزب الله أقل بكثير من دورهما في حمايتها ومن قدرتهما على أخذها إلى حيث يريدان. لذلك، تمسي حاجتها إلى سياسة تقوي وضعها تجاه حليفيها، مصدرها الوحيد توافقها مع شعبها، وإلا عقدت صفقات على حسابها، أو تورطت في معارك قد تدفع ثمنا فادحا لها مع ldquo;إسرائيلrdquo; مثلا، ومن يراقب ما جرى في أفغانستان والعراق يتعلم.

لا أحد يدخل في مواجهة مفاتيحها بيد غيره، إلا إذا كانت لديه ضمانات تمتنع المراكز عادة عن إعطائها للأطراف. وسوريا قد تفقد كل شيء، في حال تم إخراج إيران من المعركة، أو إذا ما رأى أعداؤها أنها الطرف الأضعف وركزوا جهودهم عليها، قبل مواجهة إيران. بصراحة: سيزيد التحالف مع إيران من مخاطر تعرض سوريا للضربات ولن يقللها.

منذ ثلاثين عاما ونيف، تعالج السياسة السورية مشكلاتها بالامتناع عن حلها وتعقيدها. في الأيام الأخيرة، دخلت السياسة السورية في تعقيد قد يكون الأخطر منذ عقود، في الداخل والخارج. كم أتمنى أن أكون مخطئا، وأن يمد الله سوريا بعون من عنده!