محمد سيِّد رصاص:

لم تتزامن الديموقراطية والليبرالية في التاريخ الغربي الحديث، كما أنهما لم ترتبطا في المفهوم. أتت الديموقراطية، كمفهوم وكمطلب سياسي، من حركية مجتمعية أرادت من خلالها طبقات وفئات واسعة نزع استئثار الملك، الذي كان يحكم بشكل مطلق وفردي، بالشؤون السياسية، كما في انكلترا عبر ثورة البرلمان بين عامي 1642و1649 الى أن تتوج ذلك في عام 1688 من خلال انشاء نظام الملكية الدستورية القائم حالياً في بريطانيا (نشأت عن اتحاد انكلترا واسكتلندا في عام 1707، إضافة الى مقاطعة ويلز)، فيما رأينا في فرنسا كيف نشأت حركة مماثلة ضد الملك والكنيسة الكاثوليكية المتحالفين مع بعضهما البعض، أثناء ثورة 1789، ولو أن ذلك لم يؤد الى ديموقراطية دستورية ـ سياسية، وإنما الى حكم اليعاقبة مع روبسبيير والى حكم امبراطوري فردي مع نابليون حيث لم تستقر فرنسا على الديموقراطية السياسية إلا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.
تزامن التأسيس المفهومي للديموقراطية السياسية مع ذلك الحراك الاجتماعي، من خلال توماس هوبز في quot;الليفياثانquot; (1651) الذي اعتبر القانون ضرورة لتفادي حرب الجميع ضد الجميع في المجتمع الانساني عبر نظرته الى quot;الانسان كذئبquot;، وجون لوك في quot;الحكومة المدنيةquot; (1690) بوصفها مرآة لقوى اجتماعية مدنية تأتي عبر آليات انتخابية لتكون في صورة أخرى عما قدمه الملك المطلق من سلطة أو ما أعطته الكنيسة سواء عبر تحالفها مع الملكية المطلقة أو عبر ما أعطته من خلال ممثلين عنها أو عن سلطتها سواء في الكنيسة الكاثوليكية لما حكم البابوات أحياناً بشكل مباشر أو في الكنيسة البروتستانتية (حكومة جنيف التي شكلها جون كالفن وكانت ذات طابع ثيوقراطي)، إضافة الى مونتسكيو فيquot;روح الشرائحquot; (1748) لما دعا الى فصل السلطات الثلاث، وصولاً وانتهاء بعمانوئيل كانط في quot;نقد العقل المحضquot; (1781) لما أثبت ذاتوية وفردية وحسية المعرفة البشرية عبر تحطيمه الفلسفي للميتافيزيقا مؤكداً على نسبية المعرفة وتعدديتها عند البشر.
لم تكن الليبرالية، كفلسفة ورؤية ايديولوجية سياسية تدعو الى أوسع حيز للفرد والقوى الاجتماعية في حقول الاقتصاد والحراك المدني الاجتماعي أمام حيز السلطة، قد ولدت بعد لما حصل كل ذلك التطور الفلسفي ـ المفهومي على صعيد فلسفة الديموقراطية، والتي هي آليات تنظيمية وقانونية للاختلاف والتنوع في المجتمع، حيث تبلورت بعد ذلك بكثير في أواسط القرن التاسع عشر عبر كتاب جون ستيوارت ميل: quot;في الحريةquot; (1859)، وإن كانت إرهاصاتها قد بدأت مع المفاهيم الاقتصادية لآدم سميث (1723 ـ 1790)، ومع هيجل الذي لم يكن فرانسيس فوكوياما مخطئاً لما ربط الليبرالية بأفكاره (كما حاول الماركسيون والفاشيون أيضاً) من خلال رؤيته لمفهوم (المجتمع المدني) الذي يرى أنه يمثل quot;شروط الحياة الماديةquot; (للمجتمع) التي كان هيجل، على غرار الفرنسيين والانكليز في القرن الثامن عشر، يفهم مجملها تحت اسم quot;المجتمع المدنيquot; (حيث) يجب البحث عن تشريح المجتمع المدني بدوره في الاقتصاد السياسيquot; على حد تعبير كارل ماركس في quot;الاسهام في نقد الاقتصاد السياسيquot;.
إلا أن الليبرالية، التي حاولت تقديم رؤية فلسفية لعلاقة الثالوث (الفرد ـ المجتمع ـ السلطة) عبر أوسع حيز للأول والثاني على حساب الثالث في الاقتصاد والاجتماع وتنظيم ذلك عبر القوانين، لم تستطع أن تماهي نفسها مع الديموقراطية بعد أن أصبحت تياراً سياسياً منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر أو أن تحتكر تمثيل الديموقراطية، حيث نافسها على ذلك الاشتراكيون الديموقراطيون، ذوو الجذور الماركسية، في فترة 1880 ـ 1914 قبل أن يأتي لينين ويسود التيار الماركسي، وأيضاً الراديكاليون ذوو الجذور اليعقوبية التي تعود الى روبسبيير، وفي فترة الكفاح ضد المدّين الفاشي والنازي كان رافعو راية الديموقراطية في وجه هتلر وموسوليني متنوعين من الماركسي غرامشي الى المحافظ تشرشل والليبرالي روزفلت، فيما رأينا، بعد عام 1945، كيف كان الكثير من الديكتاتوريين ليبراليين في الاقتصاد، مثل بينوشه في تشيلي، فيما لم يكن كذلك على صعيدي السياسة والقوانين.
الآن، وبعد تحوّل 1989 الذي يعادل تحولي 1688 و1789 على صعيد مجرى التاريخ العالمي، نرى الكثير من الدعوات، ذات الطابع الايديولوجي، التي يطلقها الكثير من الليبراليين العرب الجدد بشأن quot;تماهيquot; الليبرالية والديموقراطية، وهو شيء لا نراه في الوسطين الفكري والسياسي في الغرب (؟...)، حيث تعتمد الأفكار السياسية في عملية طرحها وتدعيمها، على أسس معرفية مكينة، وليس على أسس لا تمت الى المعرفة والعلم بصلة بل تعود الى نزعة رغبوية ايديولوجية، تختلط فيها الاستئصالية السياسية مع (النخبوية) المعرفية، ومع الاستئثارية الحزبية التي تعود الى الكثير من النزعات الستالينية ـ الشمولية السابقة عند العديد من الليبراليين العرب الجدد الآتين من أحضان الكرملين السابقة.