الجمعة: 2006.05.05

يوسـف إبراهيـم

وصل الفيلم الأول من سلسلة الأفلام الكبرى عن الحادي عشر من سبتمبر إلى دور السينما الأميركية، وسيسافر قريباً للعرض في مختلف أنحاء العالم. دعونا نأمل أن يجد هذا الفيلم طريقه في النهاية إلى شاشات السينما في العالم العربي، لأن عرضه في المنطقة سيمثل بالتأكيد تحدياً للوزراء العرب المسؤولين عن الرقابة.
وفيلمquot; يونايتد 93quot; يدور حول الطائرة الرابعة التي تحطمت في الحادي عشر من سبتمبر، مما أدى إلى قتل خاطفيها العرب الأربعة وركابها وطاقمها. وقبل تحطم الطائرة، قام الخاطفون العرب الشباب بقطع رقبة الطيار، ومساعد الطيار، وإحدى المضيفات، بسكاكين من الكرتون قاموا بتهريبها إلى الطائرة لاستخدامها في احتلال الكابينة، ولمنع الركاب من الدخول إليها.
وجميع وقائع الفيلم مستمدة من السجلات، والمحادثات التليفونية للركاب وللطيارين -قبل أن يتم ذبحهم- وإن كان معظمها خاصاً بالركاب الذين كانوا يجرون محادثات بهواتفهم النقالة مع أقارب أو معارف لهم على الأرض.
ولقد أتيح لي أن أشاهد الفيلم في نيويورك في عطلة نهاية الأسبوع للمرة الثانية حيث تم عرضه في قاعة اكتظت بالنظارة عن آخرها. وعندما انتهى الفيلم ساد الجميع صمت رهيب وكأنما على رؤوسهم الطير، إلى درجة أنه كان من الممكن سماع صوت الإبرة وهي تسقط على الأرض. وقف الجميع ولم يتحركوا وهم يشاهدون شريط أسماء الممثلين وغيرهم وهو ينسدل على الشاشة (الغالبية منهم أجانب، وأقل القليل عرب). تسمَّر الجميع في أماكنهم وهم يشاهدون الطائرة وهي تصطدم بالأرض، عندما حاول الركاب إعادة السيطرة على الكابينة، واستعادتها من الخاطفين الذين كانوا يحاولون توجيهها إلى quot;واشنطن دي.سيquot;.
إنه فيلم تصعب مشاهدته من قبل أي أحد من النظارة، وخصوصاً العرب منهم... ولكنه التاريخ كما يجب علينا أن نتعلمه. نعم، نحن في حاجة إلى مشاهدة هذا النوع من الدمار الذي طال حياة نفوس بريئة، والذي يستطيع بعض الأشرار إنزاله بالبشر باسم الدين، والدين منهم براء.
عندما بدأ الإعلان عن فيلم quot;يونايتد 93quot; قال الكثيرون في أميركا إنهم لن يشاهدوه، لأنه مازال من المبكر أن ينكأوا جراحاً لم تندمل بعد، لواحد من أسود الأيام في التاريخ الأميركي... ذلك اليوم الذي لقي فيه 4000 أميركي مصرعهم دونما ذنب جنوه. ولكن ما فعله الأميركيون بعد عرض الفيلم كان شيئاً مختلفاً عما قالوه قبل عرضه... حيث نراهم الآن يصطفون في طوابير طويلة أمام دور السينما من أجل مشاهدة الفيلم. الفيلم جيد الإخراج... وعلى الرغم من أننا نعرف نهايته، إلا أن كل مشهد فيه حافل بالإثارة والخطر والعواطف الإنسانية العميقة. ويقول أفراد عائلات الركاب الذين قضوا نحبهم في الرحلة 93 إنهم يوافقون على الفيلم تماماً. إن أفراد هذه العائلات، هم الذين تلقوا تلك المكالمات اليائسة من الأزواج والزوجات والأبناء والبنات والأمهات، وهم الذين سمعوا منهم تلك الكلمات الأخيرة التي تقطع نياط القلوب، مثل: تذكروا أنني أحبكم... أو الوداع يا حبيبي أو يا حبيبتي أو يا أحبائي...
بيد أن الشيء الذي أخشاه في الفيلم هو أنه يرسل رسالة واضحة للأميركيين تقول لهم: لا تنسوا ولا تسامحوا.
بالنسبة لغير الأميركيين، فإن رسالة الفيلم هي عن ذلك الرعب الذي بدأ هنا في الولايات المتحدة وانتقل الآن إلى العراق وإلى الأرض العربية... والذي يمكن إزاءه القول إنه لا حدود ولا فرق بين ما رأيناه هنا، وما نراه الآن هناك فيما يتعلق باستهداف المدنيين.
والفيلم يسهل هذه المقارنة والانتقال ولا يقف في طريقهما.. علاوة على أن أياً من المشاركين فيه لا ينتمي إلى فئة النجوم الذين يمكن أن يركز الناس انتباههم عليهم، وينسوا رسالته: فهو فيلم تم إعداده كفيلم وثائقي، شديد الوضوح، ومركز، ينقل الواقع بكل مرارته.
والمشاهدون للفيلم سيعانون ما شاءت لهم المعاناة مشاعر القلق والخوف والفزع ثم الغضب العارم، وهم يشاهدون المخرج quot;بول جرينجراسquot; وهو يحرك الكاميرا بين الركاب الأبرياء الذين يحتسون قهوة الصباح، وبين مشاهد العشرات من المراقبين الجويين في نيويورك وبالتيمور وواشنطن وبوسطن وهم يرون سماوات أميركا وهي تتعرض للاحتلال، ويشاهدون طائرات مليئة بأناس نعرف عنهم الكثير من المعلومات الآن ولكن مهما كان ما نعرفه عنهم فلن يكون كافياً أبداً. ومعظم المراقبين الجويين المشاركين في الفيلم ليسوا ممثلين محترفين وإنما هم المراقبون الجويون الذين كانوا هناك في ذلك اليوم، وهم عادة رجال محترفون هادئون رابطو الجأش، يقومون بتوجيه الطائرات أثناء الإقلاع وأثناء الهبوط، ولكنهم وجدوا أنفسهم في ذلك اليوم وقد فقدوا رباطة جأشهم تلك أمام مشاهد الهول التي كانت تتكشف أمامهم.
وفي الوقت الذي كانت تتصاعد فيه وقائع تلك الدراما الحقيقية، وفي الوقت الذي وصلت فيه الطائرات الأخرى إلى الأهداف التي كانت قد حددت لها في نيويورك، وواشنطن، فإن القتلة الأربعة في الرحلة 93 كانوا جالسين على مقاعدهم، يعدون أنفسهم للحظة التي سيبدؤون فيها العمل، وهم يختلسون النظرات إلى بعضهم بعضاً وقد تجمعت حبات العرق على ووجوههم، وراحوا ينقّلون عيونهم الزائغة في أرجاء الطائرة، في حين تتمتم شفاههم بكلمات غير مفهومة، وتقوم أيديهم بتجهيز سكاكين قطع الأوراق.
يذكر أن الطيار الخاطف اللبناني الجنسية زياد الجراح كان ذات يوم طالباً لطيفاً تربى في إحدى المدارس الكاثوليكية التي أرسله والداه العلمانيان إليها. أما في ذلك اليوم، وعلى متن تلك الطائرة، وفي أثناء هذه الرحلة فقد كان قد أصبح قاتلاً محترفاً، تدرب على كيفية ذبح الأغنام في أفغانستان، وكيفيه قطع الودجين لدى الأغنام، بحيث يكون قادراً فيما بعد على فعل نفس الشيء مع المدنيين. أما بالنسبة لركاب تلك الرحلة، فإن الشيء المختلف بينهم وبين ركاب الرحلات الأخرى التي قادها الخاطفون، هو عنصر الافتقار إلى المفاجأة. لقد كانوا يعرفون ماذا سيحدث لهم. ففي الساعة الثامنة والنصف صباحاً، كان واضحاً أن هناك طائرة مدنية واحدة على الأقل قد اختطفت، وفي الساعة الثامنة واثنتين وأربعين دقيقة أقلعت الرحلة 93 في نفس الوقت تقريباً الذي كانت فيه طائرة أخرى تقوم بالارتطام بمركز التجارة العالمي. وبدأ ركاب الرحلة يتلقون اتصالات هاتفية من أهلهم وأصدقائهم ومعارفهم تخبرهم بما حدث. كانوا يعرفون ما الذي ينتظرهم... ولكنهم مع ذلك قالوا: لا. ومن أجل quot;لاquot; هذه دفعوا ثمناً غالياً هو حياتهم ذاتها. وهذا على وجه التحديد هو الشر الذي يجد شبابنا أنفسهم وجهاً لوجه أمامه.