د. رضوان السيد
ما يزال الفرنسيون مصرين على الفصل بين الدين والدولة، وقد ثاروا ثورةً عنيفةً في عام 2004 لأنّ بضع فتياتٍ مسلماتٍ ارتدين الحجاب أو أردنَ ارتداءهُ في المدارس الرسمية، وسارعوا بعد تجاذُباتٍ لم تطُلْ لإصدار قانونٍ يحرّم الرموزَ الدينية في المدارس العامة. وما خلا الأمر وقتها، بل وطوال عقد التسعينيات من حساسية خاصةٍ تُجاه الإسلام بالذات، بسبب الأجواء المتغيّرة إزاءه منذ أواخر الثمانينيات؛ ثم على الخصوص بعد نشوب الحرب على الإرهاب إثر هجمات 11 سبتمبر 2001. لكنّ الإنصافَ يقتضينا القول إنّ الغُربة الأوروبية تُجاه الدين بشكلٍ عامٍ مستمرةٌ منذ أكثر من مائتي عام. فحتى في بريطانيا العظمى التي تختلفُ فيها العلاقةُ بين الدين والدولة، ليس هناك إقبالٌ اجتماعيٌّ وثقافيٌّ على الكنائس سواءٌ أكانت كاثوليكية أو بروتستانتية. ويذكُرُ المراقبون للتديُّن في أوروبا أنّ في القارة القديمة استثناءين تُجاه الدين أو تُجاه quot;الكثلكةquot;: إيرلندا وبولندا؛ حيث يبدو الدين قوياً في المجالين الاجتماعي (الرمزي والشعائري) والسياسي. ولذلك أسبابٌ يخوضُ فيها الباحثون، لا مجالَ للتفصيل فيها هنا. أما الدول الأوروبية الكبرى والمتوسطة، مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا والدول الإسكندنافية، فضلاً عن روسيا ودول شرق أوروبا والبلقان؛ فإنها جميعاً ارتبطت فيها الحداثةُ بالإعراض عن الدين أو عن الكنيسة (تجنباً للدخول هنا في نقاشٍ حول الفرق بين الأمرين). وقد دفع ذلك المؤرخين وعلماء الاجتماع، ومنذ القرن التاسع عشر لاعتبار quot;الحالة الأوروبيةquot; في المسألتين الاقتصادية والثقافية، حالةً نموذجيةً. فلا بد من الحداثة لتحقيق التقدم الإنساني. ولا بلوغَ للحداثة إلاّ بالرأسمالية، ومع الرأسمالية أو الحداثة المعقلنة، يتضاءَلُ الإحساسُ الديني أو الإحساسات غير العقلانية، فتسودُ علمنةٌ ضروريةٌ لتقدم عمليات الحداثة، مع اختلافاتٍ ضئيلةٍ في الأشكال، كما بين فرنسا وبريطانيا وليس أكثر. وعندما صعدت الماركسية- اللينينية، والتي ركّزت على تجاوُز الرأسمالية، ما اختلف الأمر. فالرأسماليةُ خطوةٌ ضرورية أو مرحلةٌ ضرورية، والمضي إلى الاشتراكية إتمامٌ لعملية العقلنة على المستوى الفكري. وإذا كان الرأسماليون لا يطمحون لأكثر من فصل الدين عن الدولة، أو تنحية الكنيسة عن التأثير في المجال العامّ؛ فإن الاشتراكيين أرادوا إزالة الدين وليس الكنيسة فقط، لكي تنتصر العواملُ العقلانية والمصلحية في الإنسان، ويستقيم الوعْيُ الطبقي.
استقرت المقولة العقلانية/ العلمانية أخذاً من التجربة الأوروبية؛ إلى الحدود التي ما عاد ممكناً فيها تصور نماذج أُخرى أو تجارب بشرية أُخرى. وقد بدا ذلك حتى في النقاشات حول العولمة منذ ثمانينيات القرن العشرين. فالتوجهات المعادية للعولمة باسم البيئة أو الاشتراكية؛ فُسّرت بأنها اتجاهاتٌ مثاليةٌ لا تلبثُ أن تزول. والتوجهات المعارضة للعولمة ذات المنزع الديني، قيل إنها توجُّهاتٌ وميولٌ قروسطية، تتحدى العقلانية والتقدم الإنساني نُصرةً للتقليد الديني أو باسم التجدد الأصولي الرجعي. وعلى هذا النحو جرى تفسيرُ كراهية الأصوليين المسلمين للتغريب، وحملتهم على العولمة، وعلى مقولة صدام الحضارات. لكنْ برزت مشكلاتٌ في هذه المقولة الثابتة منذ قرنٍ ونصف دفعت لإعادة النظر بعد جهدٍ جهيد. كانت هناك من جهة تحليلات ماكس فيبر(1920) الذي اختصَّ الغربَ بالعقلانية الرأسمالية؛ لكنه رأى تأثيراً للدين ( وللتشدد البروتستانتي بالذات) في النشوء الرأسمالي. ثم إنّ رفض الحداثة بل العولمة ظاهراً لم يقتصر على الأصوليين المسلمين؛ بل ظهر إحياءٌ دينيٌ لدى الهندوس ولدى البوذيين ولدى اليهود والمسيحيين (البروتستانت أو الإنجيليين على الخصوص). وما كان هؤلاء جميعاً كارهين للعولمة، بل حمل بعضُهم عليها؛ في حين انصرفت تلك الحركات الجماهيرية الجارفة للتأكيد على القيم التقليدية ذات الأصل الديني. وما كانت تلك الحركات ضد الحداثة؛ بل إنها صنعت حداثتها الخاصة، وحققت تنميةً شاسعةً وتقدماً في شرق آسيا. وكوريا الجنوبية مثلاً تمسّحت (بروتستانتياً وكاثوليكياً) حين كانت تحقق معجزتها أو تجربتها في النمو الاقتصادي الكبير.
على أنّ النموذج الأبرز لعدم ارتباط الحداثة بالعلمانية: الولايات المتحدة الأميركية. فمنذ القرن السابع عشر خرجت الولايات المتحدة على المواضعات الأوروبية في علاقة الدين بالدولة. فقد فصلت الدولة نفسها تماماً عن الدين أو عن سائر المذاهب المسيحية؛ بحيث ما حدث صراعٌ أو تجاذُبٌ، واشتغلت المذاهبُ المسيحية في المجتمع، وتلاءمت مع تجربته السياسية والدينية التعددية، فما عرف الأميركيون الوجهَ الرجعيَّ أو الصراعيَّ للكنيسة. والولايات المتحدة التي تقفُ على ذروة الحداثة اليوم، تشهدُ صعوداً دينياً هائلاً، وقد وصل ذلك الصعود عن طريق الولايات المتحدة إلى مناطق شاسعة في أميركا اللاتينية وآسيا وإفريقيا وشرق أوروبا.
وتقضينا الدقةُ التمييز بين حركات الصعود الديني. ففي حين تسلّم الحركات الإنجيلية الجديدةُ بالتعددية، وتعمل على هذا الأساس، يميل الأصوليون المسلمون والهندوس إلى الأَوحدية، ولا يقبلون التعدد داخل أديانهم أو بين الناس في مجتمعاتهم الوطنية. لكنّ الأصوليين والإحيائيين من أي دينٍ أتَوا ليسوا في الحقيقة ضد الحداثة. فهم يريدون التأثير والمشاركة ويراعون الشروط الضرورية لذلك. وهم يستخدمون الوسائل التقنية الحديثة بكفاءةٍ لا تقلُّ عن تلك التي يتقنها الحداثيون. ويقتضينا الإنصاف والتوسُّع أيضاً أن نذكر أنّ الحركات الإحيائية تتنوع من حيث اهتمامُها بالسياسة أو بالشأن العامّ. فالإحيائيون الكوريون والمكسيكيون والأرجنتينيون لا يهتمون بالشأن السياسي، بل يميلون للتأثير الاجتماعي المباشر- في حين يريد الإحيائيون الأميركيون إيصال بعض أنصارهم إلى الكونغرس ومجالس الولايات لكي يمكنهم الضغط لتحقيق قيمهم وبرامجهم. أما الأصوليون المسلمون والهندوس فيميلون للمشاركة المباشرة في إدارة الشأن العامّ؛ لكنْ بدوافع دينية، ولتحقيق أهداف يعتبرونها ذات أهميةٍ دينية. ويتسع المشهد العالميُّ أيضاً لكي نذكر نماذج مدنيةً (غير دينية) تُعادي العولمة والسوق، مثل حركات البيئة والخضر، والحركات الشعبوية في أميركا اللاتينية. وهذه الحركات ليست دينية، لكنها تشارك الحركات الدينية في السعي من أجل التغيير.
ما معنى هذا كلّه؟ معناه أنّ أوروبا تعيشُ في بحرٍ عالميٍ مختلفٍ تماماً. والأحرى القولُ إنها هي الاستثناء (في مجال الانفكاك بين الدين والحداثة). إذ كلُّ الحركات المدنية والدينية التي ذكرناها تتجه لتحقيق التنمية والتقدم، وبنماذج وتجارب مختلفة تاريخاً وحاضراً عن المسلك الذي سلكته أوروبا قبل حوالي قرنين ونصف القرن. وقد دفع ذلك عدداً من الباحثين من مثل تشارلز تايلور وتشارلز رورتي وصامويل أيزنشتات، للخروج على مقولة (بارادايم) العلمنة أو الطريق الأوروبي الأوحد للحداثة. تحدث أيزنشتات مثلاً عنquot; حداثات متعددةquot;؛ وليس في الحاضر فقط؛ بل وفي الماضي أيضاً. وقد اقتضى منه ذلك، كما اقتضى من أرمستو وتايلور ورورتي، تحليل عدة نماذج للتقدم أو الحداثة في العقود الماضية. أقدمُ تجارب الحداثة المختلفة التجربةُ اليابانية، التي حدّثت بقوة، وتشبثت بالتقاليد البوذية وتقاليد الشنتو(غير العقلانية!). وتسير الهند بخطىً واسعة نحو الحداثة التنموية، ومع ذلك ففيها حركة إحياءٍ دينيٍ قومي تقليدية وإحيائية على حدٍ سواء. وفي ماليزيا تنتصرُ تجربةٌ تنمويةٌ كبرى، مع تشبُّثٍ بالإسلام الإصلاحي. وفي إندونيسيا يظهر إسلامٌ آسيويٌّ وعربيٌّ في الوقت نفسِه. والإسلامُ العربي في الأصل إشارةٌ إلى نزوع تقليدي؛ لكنّ العرب الآن يشهدون حركة إحياءٍ دينيٍ شديدة القوة، وصلت للسلطة في فلسطين، وتستطيع المشاركة بقوةٍ في إدارة الشأن العام في العقدين القادمين في سائر أنحاء الوطن العربي.
لا انفراط بين الدين والدولة، والدين والمجتمع، من أجل الحداثة. وهذا ما تشير إليه تحركات وجماهيريات الأعوام الأخيرة. والتجربة الأوروبية في ذلك تجربةٌ استثنائية. وقد شهدت الحركاتُ الدينيةُ صعوداً في العقود الماضية، وهي ستصعد في العقود القليلة المقبلة. والمطلوب النظر في هذا الفهم الجديد للحداثة ولدور الدين، وليس الابتعاد عن أحدهما باسم الآخر. فالظاهر أنّ الحركات الدينية سوف تظلُّ مالئةً للمشهد إلى أمدٍ طويل. وهي تحضر الآن في ظرفٍ عاصفٍ تتغير فيه الدولةُ القومية وتتغير وظائفُها. وفي حين تحدث كثيرون من قبل عن طُرُقٍ متعددةٍ إلى الحداثة أو الاشتراكية أو الديمقراطية، يتحدث عديدون اليومَ عن حداثاتٍ متعددة، والحداثة الأوروبية واحدةٌ منها فقط.
التعليقات