سعد محيو

ثمة ضحية غير متوقعة للاجتياح البروتستانتي الغربي للشرق الإسلامي هي المسيحية الشرقية.

الأدلة؟ إنها مبعثرة في كل مكان: في العراق، حيث حمل نصف المسيحيين، الذين كانوا يشكلون قبل حرب 2003 نحو 700 ألف نسمة، تاريخهم على أكتافهم ورحلوا. في مصر، التي شهدت هجرة قبطية خلال أقل من عقد واحد. في لبنان، الذي ldquo;يخليهrdquo; المسيحيون بوتائر متسارعة. وفي فلسطين التي تسعى ldquo;إسرائيلrdquo; لتفريغها من أتباع عيسى بن مريم.

هذا النزف المستمر يشكّل خسارة حضارية صافية للإسلام، بسبب الدور التاريخي الكبير الذي لعبه المسيحيون المشرقيون في ازدهار وتفتح الحضارة الإسلامية ثم في العصور الحديثة، في بلورة الهوية القومية العربية. المسيحيون النسطوريون، على سبيل المثال، كان لهم الدور الرئيسي في ترجمة الفلسفة والعلم والطب الإغريقي إلى العربية، وبعدها في عقد الزواج السعيد في قرطبة الأندلس بين إبن رشد وإبن طفيل وبين أفلاطون وأرسطو.

وحين سعت الامبراطوريات الأموية والعباسية والعثمانية الى ترسيخ جذورها في الشرق الاوسط، لم تجد عوناً لها سوى المسيحيين العرب الذين أقاموا الدواوين الإدارية (المؤسسات) وأسهموا في بناء البنى التحتية للدول الجديدة.

إبان الحروب الصليبية، دفع مسيحيو الشرق أثماناً أفدح من مسلميه، حين أعمل ldquo;برابرة الغربrdquo; السيف في رؤوسهم، ونهبوا مدنهم، ودمروا مكتباتهم، بسبب شعورهم بالدونية إزاء ثقافة وغنى وتطور القسطنطينية وباقي الحواضر البيزنطية.

شيء من هذا القبيل يحدث الآن، فالحروب التي أشعلها الإنجيليون الغربيون في ديار الإسلام، من أفغانستان إلى العراق، مروراً بلبنان وفلسطين، حركّت غرائز التعصب لدى بعض الفئات الأصولية الاسلامية، التي صبت جام غضبها بشكل غير مبرر على المسيحيين العرب. وهكذا نسفت خمس كنائس في بغداد، التي كانت تحتضن منذ القرن الاول الميلادي وحتى أول القرن الواحد والعشرين أكبر جالية مسيحية شرقية، وهجّر 350 ألفاً من ديارهم. وهكذا أيضاً، كانت ldquo;حرب الحضاراتrdquo; الامريكية تؤثر تأثيراً سلبياً للغاية في نصارى مصر ولبنان وفلسطين.

الآن، سوريا تشكل الملجأ الآمن الوحيد لهذه الجاليات الحضارية- التاريخية، لكنه ملجأ قد يتبخر في أي وقت إذا ما قرر الإنجيليون الأمريكيون نقل فوضاهم الخلاقة إلى بلاد الشام.

أكثر من ذلك، ثمة شكوى مريرة هذه الأيام لدى الكنائس الشرقية من ldquo;الغزو الدينيrdquo; الذي يقوم به الأمريكيون في العراق وفلسطين ولبنان، والذي يستهدف التبشير بالبروتستانتية والإنجيلية بين صفوف المسيحيين الشرقيين. وقد وصفت الباحثة الكاثوليكية الشرقية جاكي درفيشيان هذا الغزو أخيراً بالتعابير المؤثرة الآتية: ldquo;لقد فوجئ مسيحيو العراق وباقي أنحاء الشرق بمقدم جماعات كبيرة من المبشرين الإنجيليين والمعمدانيين جنباً أخيراً إلى جنب مع القوات الأمريكية الغازية. وهذا عنى بوضوح أن الاحتلال الأمريكي استهدف المسيحيين العرب بالقدر نفسه الذي استهدف فيه المسلمين. إنها مفارقة كبرىrdquo;.

مفارقة كبرى، أجل، لكنها ليست جديدة، إنها التاريخ نفسه يعيد نفسه بعد أكثر من ألف عام: مسيحيو الغرب يأكلون حصرم الشرق الإسلامي، والمسيحيون العرب يضرسون.

وفي حال استمر الأمر على هذا المنوال، لن يخسر الإسلام جزءاً من إرثه الحضاري الكبير عبر هجرة النصارى العرب فحسب، بل ستكون الابواب مشرعة أيضاً امام صدام حضارات كبير لا وسطاء فيه بين المسيحية الغربية والاسلام.

وهذه لن تكون محصلة حزينة فقط، بل مرّوعة أيضاً.