أمجد ناصر


ما هي السيرة؟
أهي محض جردة حساب، ام اعادة بناء ماض قضي وانتهي، ام شهادة علي زمن، ام رواية فردية عن الذات والعالم؟
ليس هناك جواب واحد يمكن استخلاصه علي سؤال السيرة، إذ تتعدد الاجابات بتعدد الاشخاص والمنظورات والعلل والأسباب. ولا يكفي، طبعا، ان يعنون كاتب ما كتابه بعنوان قاطع ينهينا فيه عن اخذ كتابه مأخذ السيرة حتي نصدقه ونمشي في ركابه مثلما يفعل الكاتب اللبناني حازم صاغية في كتابه الجديد (هذه ليست سيرة) الصادر حديثا عن دار الساقي في لندن.
فكلمة (سيرة) ترد، هنا، في العنوان حتي وان جاءت في معرض نفي ما نسميه (افق التوقع)، ولا يفعل متن الكتاب سوي تأكيد هويته وانتمائه الي (جنس) كتابي اخذت تتسع رقعته في العربية. ولكن تنبيه حازم صاغية الذي يشدد عليه العنوان ليس من باب (الاثارة) التي قد تفضي الي عكسها وإنما محاولة، مقصودة، لحصر اثر (السيرة) في جانب معين وعدم توقع حكايات شخصية وتشريح للذات. انها ليست سيرة (حياة) وانما سيرة (افكار).
كأن حازم يقول ان ما يستحق ان يروي في (حياته) ليس حياته نفسها التي قد لا تصلح للعرض علي الملأ وانما (الافكار) التي طبعت تلك الحياة بوصفها (افكار) مرحلة وسمتْ حياة جيل كامل بميسمها، وتركت اثرا لا يزال يلوح علي الحياة العربية العامة المترنحة بين (تبر) الماضي وتراب الحاضر.

ہ ہ ہ

تبدأ (سيرة) حازم من الجدة وليس من الأب والام اللذين لا نلمس لهما حضورا في السرد. الجدة هي الاصل المؤسس للسيرة الفكرية. فالمرأة المسيحية الارثوذكسية، المسكونة بالتاريخ والحس العروبيين، تصر علي تسمية ابنها خالد، في مفارقة، لمحيطها المسيحي الشرقي الذي لا يتغرب الي حد تسمية ابنائه (انطون)، مثلا، ولكنه لا يبلغ، في تماهيه مع محيط اوسع، الي حد تسمية (خالد) التي تحيل، هنا حصرا، الي (سيد اليرموك).
يوحي لنا السرد ان هذه التسمية تمثل تطرفا محصورا في الجدة نفسها وليس لها امتداد اوسع في الجغرافيا والتاريخ، والحال، ان فكرة (العروبة) المعاصرة هي فكرة مسيحية الي حد بعيد، فـ(الاحياء) العربي ارتبط بأسماء ثقافية مسيحية (لبنانية، ايضا) في نوع من الرد المبطن، او المعلن، علي فكرة (الرابطة الاسلامية) التي اعطت الحكم العثماني غطاء دينيا لحكم المنطقة العربية. ليست العروبة (الفكرية) التي نشأ عليها حازم صاغية من اختراع جدته، فهي ذات امتداد لبناني (مشرقي بالعموم) اقدم نسبيا، ولكنها لم تكتسب (العصب)، او التلبس الوجداني، كما هو الحال عند جدته. عروبية جدته، المتعلمة في مدرسة للراهبات، فيها من الاسلام اكثر مما فيها من المسيحية، ولكن المسيحية لا تغيب، تماما، في هذا النسب الذي كانت تتراءي لها جذوره ضاربة في عمق الصحراء العربية وقبائلها (تغلب) وشعرائها (عمرو بن كلثوم).
الجدة اولا عند حازم صاغية، فهي الجذع القوي الذي استندت اليه انتماءاته الاولي، ولا اجد، شخصيا، غرابة في ذلك. فكاتب هذه السطور يدين لجدته بالسرود الحكائية والشعرية الاولي التي استقرت في ذاكرته، وظلت تمارس اثرا سحريا لم ينقض حتي اليوم، ولكني، علي عكس حازم، لم امارس قتل الجدة في اعماقي وانما احياؤها بصور مختلفة.
سرد حازم صاغية، للانصاف، لا يمارس قتل الجدة، حتي وان بدا ساخرا، متفكها، من (خرافاتها) العروبية، فهي الشخص الوحيد، في الكتاب، الذي يحظي بشطر لا بأس به من السرد وبصورة شبه روائية. ضخامة صورة الجدة ودراماها الفكرية والشعورية، في محيط لا تتماهي معه تماما، تصلح لأن تكون شخصية روائية بامتياز، ولعل هذا ما جعلها تحظي بحضور سردي وغني في التفاصيل لا يقارن به حضور اي شخصية اخري.
الجدة اولا، يعني العروبة اولا عند حازم صاغية، والعروبة اولا تعني (البعث) كمستهل لسيرة الافكار التي ظلت تتقلب، علي نحو وجودي قلق، بين الشمال واليمين من دون ان تقع موقع الاطمئنان الكامل في نفس ذلك المنشق الابدي.
تتراوح (عروبة) حازم صاغية بين (البعث) و(الناصرية). اي بين جدته (ام خالد) وبين خاله وبعض اساتذته، فهي من حيث العاطفة اقرب الي عبد الناصر ومن حيث الفكرة وادبياتها تجد (البعث) اكثر تماسكا. فلم يعهد عن الناصرية تنظير فكري وايديولوجي عميق، فيما (بعث) عفلق راح يؤسس للعروبة فلسفة وادبيات يغلب عليها، بالتأكيد، التأجج البلاغي.
لكن هزيمة حزيران ستقصم ظهر الفكرة العروبية الناصرية مثلما قصمت انشقاقات (البعث) وسيطرة العسكر عليه ظهر (البعث) الذي لا تقل شراكته في الهزيمة عن عبد الناصر. هنا تتململ الفكرة القومية العربية عند حازم صاغية وتروح تسأل عن اسباب الهزيمة التي جثمت، بثقل باهظ، علي صدور العرب. هناك فاصل قومي سوري في حياة صاغية، ولكن لا شيء يحظي بهذا القدر من التنصل والهجاء في كتابه قدر ما حظي فاصله القومي السوري. فمروره بالقومية السورية الذي برره الوسط الاجتماعي والصحبة اكثر مما بررته الفكرة نفسها يتمظهر في السرد علي شكل درنة او دمل من الصديد الصرف او الطفح الجلدي الذي يثير تقززا حسيا مفرطا. وحتي كتابة هذا الجزء من سيرته الفكرية (واحسب انها حديثة العهد) يتراءي له هذا الفاصل بوصفه عارا الي درجة انه يسم الفصل المخصص لطوره (الفكري) هذا (عاري: قومي سوري)!
لا الفكرة العروبية بشقيها الناصري والبعثي ولا الشيوعية او الخمينية اللتان تنتظرانه عند منحي قريب من مناحي حياته الفكرية والسياسية تتخذ شكل (العار) الشخصي كما اتخذته محطته القومية السورية، واذا كان القوميون العرب والشيوعيون ستسوؤهم صورتهم في سرد حازم صاغية فمن الصعب معرفة نوعية الشعور الذي سيتلبس القوميين السوريين وهم يقرأون كتاب حازم صاغية.

ہ ہ ہ

الماركسية بين جميع الافكار التي تقلّب بينها صاغية تحظي بشيء من (رأفته) لكن ليس الماركسية (العربية) التي تحولت اختزالا وتجريدات و(دليل عمل) بل ماركسية ماركس والمفكرين الاوروبيين الذين رفضوا تحولها ايديولوجيا ودينا جديدا، حتي لينين (نبي) الماركسية لا يبدو اقل مدعاة الي الضجر، عند صاغية، من انطون سعادة فيما يمكن، للمفارقة، احتمال ستالين وماو!
لا ادري كم طالت ماركسية صاغية ولكنها تبدو الاطول في انقلاباته الفكرية والسياسية، وهي نفسها التي ستؤدي به الي الخمينية في طورها الانتصاري الاول. تبدو لي خمينية صاغية كأنها عودة الي الجدة مرة اخري. فالجدة كانت عثمانية الهوي، لسبب له علاقة بالاسلام، دين المحيط الاوسع، وخمينية صاغية نشأت من يأس في الماركسية، ومن قبلها القومية العربية، في دحر الامبريالية واسرائيل (والفكرتان غربيتا المنشأ) فماذا يبقي لتحريك المدي الشعبي الواسع سوي الدين؟
انتصار الثورة الخمينية، فيما كانت الثورة الفلسطينية تتورط اكثر فأكثر في المعادلة اللبنانية الداخلية وتتماهي مع النظام العربي، هو الذي جعل فكرة الدين (او استخدام الدين) مغرية لماركسيين وعلمانيين في لبنان وغيره من البلدان العربية، ودفعت شاعرا كبيرا كأدونيس الي تحيتها بقصيدة. ومن قلب منظمة العمل الشيوعي اللبنانية التي كان ينتمي اليها صاغية خرج عدد لا بأس به من (كوادرها) من الماركسية الي الخمينية التي اطاحت واحدا من اعتي الانظمة واكثرها ارتباطا بالغرب. لكن الفكرة، علي ما يبدو، شيء والواقع شيء اخر، اذ سرعان ما راحت الخمينية تبطش بـ(حلفائها) وتأكل (ابناءها) وتحولت طوبي الثورة الي نافورة تسيل دما في بيروت.
ها هو حازم صاغية ولم يبلغ الاربعين بعد يجرب كل( الافكار) المطروحة في العالم ولم تشف غليله بل ظلت كالسراب كلما اقترب من تلألئه الخلاب ابتعد او انكشف عن لا شيء.
فماذا يبقي؟
اي افكار بعد يمكن الاعتقاد بها؟
تبدو بدايات (الليبرالية) تلوح في اواخر ايامه في بيروت قبل ان يأتي الي لندن للعمل في الزميلة (الحياة). الكتاب تتوقف فصوله عند الخروج الي لندن. لكن نحن الذين قرأنا حازم صاغية في هذه الفترة الممتدة من اوائل التسعينات الي الان نعرف الجواب. او، في الاقل، نعرف بعضه.
ما نعرفه ان الرجل استقتل في الدفاع عن فكرة التسامح والتعدد والاختلاف مقترنة، للأسف، باسوأ التدخلات العسكرية الغربية في المنطقة، حتي انه كاد يجد لاسرائيل عذرا في بطشها بالفلسطينيين، كما اننا لاحظنا ان شراسة نقده وعنفه للسائد في الحياة السياسية العربية (الذي ننقده بشراسة لا تقل عنه) لا يقارن، البتة، بنقده لوحشية الليبرالية الامريكية والعدوانية الاسرائيلية المنفلتة من كل عقال، ناهيك، بطبيعة الحال، عن غضه النظر عما يسود دولة بعينها (السعودية، مثلا) من انعدام ادني اشكال حقوق الانسان التي يؤمن بها صاغية(عن حق كما اعتقد).
ليست تقلبات حازم صاغية مما يؤخذ عليه، في نظري، فهي تعبر، فعلا، عن نفس قلقة تبحث عن (حقيقة) ما، وعن تصور افضل للسياسة والاجتماع الانساني، فليس الثبات علي (المبدأ) مما يحمد، دائما، في الفكر والسياسة ما دام الفكر والسياسة متحركين وغير ثابتين هما ايضا.
واذا كانت اطلالات حازم صاغية اليومية علينا كـ(معلق سياسي) لم تنصفه، او لم ترسم صورة كاملة وصحيحة لافكاره، فليس علينا سوي انتظار الجزء الثاني من (سيرته)، لعلنا نجد فيها متسعا وفسحة للتأمل لا يمنحها العمود الصحافي لصاحبه.
بقي ان اقول انني استمتعت بقراءة (هذه ليست سيرة) التي كشفت لي جانبا ادبيا رفيع المستوي لم اعرفه، علي هذا النحو، في كتابات صاغية السياسية، وذكرتني بجانب من (سيرتي) التي عرفت قلقا لم يبارحها حتي اليوم، وان لم تتقلب، في الافكار، تقلب (سيرة) حازم.