محمد بن عبداللطيف آل الشيخ


لو قلت إن أغلب (الصحويين) لا يحفلون بالإنسان قدر اهتمامهم بالأيديولوجيا فلن أضيف جديداً. فالتعصب قتل فيهم كل إحساس بالإنسان، وعَمّق نصرة (الفرقة) أو الطريقة أو الحزب على حساب كل المفاهيم والأخلاقيات والقيم والمثل الإنسانية العليا؛ فالصحوي لا (كرامة) عنده إلا له ولأصحابه، أما (الآخر) المخالف فليس له أية قيمة؛ بل يجب - في رأيهم - ألا يكون له قيمة، والسبب أنه وإياهم على خلاف، بغض النظر عن نوعية هذا الخلاف وحدوده.

أقول قولي هذا بعد أن قرأت في بعض منتديات الصحويين في الإنترنت (تشفياً) رخيصاً وحقيراً ومنحطاً في أسلوبه ومنطلقاته وبواعثه عندما سقطت زميلتنا الفاضلة (ريما الشامخ)، الوجه التلفزيوني البارز وهي تؤدي عملها وتمارس رسالتها التي نذرت نفسها من أجلها؛ واتضح فيما بعد أنها أصيبت (بجلطة)، نسأل الله أن يمن عليها بالشفاء العاجل.

أن تختلف معي فلك كل الحق أن تقول ما تؤمن به، وتدافع عن طرحك ورؤيتك، ولكن أن ينتقل الخلاف الفكري والثقافي إلى إلغاء للآخر، أو إقصائه، أو إلى الحقد وتكريس الضغائن وتشويه سمعة من تختلف معه، فأنت هنا تنتقل من المعنى (الإنساني) للخلاف إلى المعنى (الحيواني) للصراع والتطاحن والتناطح تماماً كما تتصارع الحيوانات، أو كما تتناطح التيوس، حيث يتحول المجتمع إلى (غابة) يفترس فيها القوي الضعيف، ويمارس فيها صاحب السطوة (وصايته) حتى على أفكار الآخر، إلى درجة يتعاملون فيها وكأن من (المفروض) أن يُفكروا (نيابة عنك)، وما عليك أنت المغلوب على أمرك إلا اتباع (المنظر) والتأسي به وبأقواله وتفسيراته، وتعطيل (عقلك) وموازينك المنطقية، وكل ما يتناقض مع هذا الخطاب المؤدلج.

وكل ما ارتكبته الزميلة الفاضلة - في رأي منظري التطرف - أنها أدت عملها كمذيعة في القناة (الإخبارية) ملتزمة بالحجاب كما يرى صفته وهيئته (الشرعية) الشيخ الألباني رحمه الله - مثلاً - وليس (النقاب) أو (البرقع) كما يُصر البعض على أنه الصفة الشرعية (الوحيدة) للحجاب.. وكما ترون فالقضية هي قضية محض (خلافية) وليست قطعية؛ ولأن أغلب الصحويين قد عصفت بهم وبأفكارهم حُمى (التطرف)، فاعتبروا هذه الممارسة خروجاً على قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام، وتجاوزاً (لثوابت) الأمة، وانتهاكاً صارخاً لما يجب أن تكون عليه المرأة المسلمة في لباسها.. وبالمناسبة، فإن من يسمع خطاب هؤلاء فيما يتعلق بماهية (الحجاب) يشعر وكأن هادي هذه الأمة محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة والتسليم ما بُعث إلا ليضع (خرقة) سوداء يغطي بها وجه المرأة ليس إلا.

والغريب أن هناك (انتقائية) تثير الضحك، بل والشفقة في الوقت ذاته، في (تناقضاتها) في الخطاب الصحوي عند بعضهم على وجه الخصوص. فعندما أصيبت زميلتنا الفاضلة بهذا المرض اعتبر متشددو التيار المتطرف أن هذه (عقوبة) من الله نتيجة لأنها أخذت برأي الشيخ الألباني في الحجاب، وتركت رأياً أكثر (تشدداً) في هذا الشأن؛ هذه (فحوى) ما يقول به ويروج له رموز التطرف والتشدد بوضوح في (حقدهم) عليها ومناهضتهم لها. ولو أننا (قبلنا) بهذا الرأي - جدلاً - فإن السؤال المنطقي لهذا السياق سيكون: هل كل من أصيب بهذا المرض، كالشيخ الحوالي عافاه الله - مثلاً - والذي أصابته هو الآخر جلطة دماغية، هي نتيجة لعقوبة إلهية؟

أعرف جوابهم سلفاً، وهو أن الجلطة بالنسبة للحوالي (ابتلاء)، بينما أنها بالنسبة لريما (عقوبة)، مع أن (ريما والحوالي) كلاهما مسلمان، يؤمنان بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، إضافة إلى أن ريما (مُتبعة) في حجابها، وليست على الأقل (مبتدعة)، فهي تتبع رأي الشيخ الألباني، الذي هو عالم من كبار محدثي هذا العصر، والذي ألّف ورجح هذه الصفة (للحجاب) الشرعي للمرأة على رؤوس الأشهاد؛ الأمر الذي يفضح (هشاشة) هذا الفكر المتطرف، ومدى (انتقائيته) في مقارعة الحجة بالحجة،، و(تناقضه) وتحيزه إلى درجة (مُهلهلة)، رقيقة في نسيجها، وفي مبناها وسياقاتها ومنطلقاتها.

وبعيداً عن هذا وذاك؛ هل الحقد والتشفي و(الرقص) على مآسي الآخرين هو من أساليب الدعوة وضوابطها وأخلاقياتها؟. وهل مثل هذا الفعل (القميء) ممارسة أخلاقية تتناسب مع قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وهل مثل هذه الممارسة التي تنضح ببعدها عن كل معنى للمثل العليا لهذا الدين القيم تتناسب مع ما وصف الله جل شأنه رسوله صلى الله عليه وسلم، قدوتنا وأسوتنا جميعاً، عندما قال في كتابه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}؟. أم أن (الصحوية) لدى البعض هي فرقة محض سياسية تسعى إلى (تثوير) مفاهيم الإسلام خالطة العادات والتقاليد بهذه المفاهيم، لتكوّن في (المحصلة) قوة ضاغطة في مجتمعنا، لغايات لا تخفى على الحصيف؟

كفانا - أيها السادة - لعباً على المفاهيم الإسلامية، وكفانا تذرعاً بها، وتدرّعاً فيها؛ فالتطرف، وهذه (اللغة) المتشنجة الحقودة، ومثل هذه الممارسات، هي جذوة إشعال الفتن، وتفكيك وتخريب المجتمعات.