راكان المجالي
مقصرون نحن في كل شيء في عالم العرب. السياسيون مقصرون. المفكرون والمثقفون والنخب كلهم مقصرون. وأول التقصير هو في انتاج المعارف الحقيقية، واللازمة لإدراك أوضاعنا الراهنة. ولا أقول وضعاً راهناً واحداً، فكل راهن عربي، ومن دون تهم القطرية والانعزال، صار يقضي بانتاج جهاز ضخم من المفاهيم الخاصة لإدراكه، ومن ثم التعامل الراشد مع حقائقه المعرفية كما هي.
الجميع يكثر من التوصيف، والجميع ينحو للإقلال من انتاج المعارف، فترس عجلة التغيير الضخم وصل الى laquo;مرافئ الشرقraquo; وصحاريه بأسرع مما توقع النابهون، وحين انفجرت حلقات التحول والتغيير من عقالها، لم نجد سوى قوارب مفاهيمنا المثقبة، من زمن الهزائم، للإمساك بهذه الفوضى العارمة.
لم تعد حقائق الصراع في بلدنا، وفي هذا الكون، سهلة وبسيطة كما كانت. وما منع قوله سابقاً، أو تمنعنا عنه، ها هو اليوم laquo;يقال بعنف أكبرraquo;. نسبياً، والمقصود هنا الفرص والموارد، خسرنا معارك التنمية بشكل شبه كامل. ولم تعد معارك استقلالنا الوطني أقل خسراناً وفداحة، وانزلقنا، بالتالي، من محاولات الحداثة الى وهمها.
لم ندرك، بالمعنى الاستراتيجي، عمق التحولات التي أحدثها عقد بلد عربي أو بلدان تسوية قانونية مع اسرائيل. هربت معارفنا السياسية والثقافية من محاولة انتاج مفاهيم هذا التحول، الى فضاء التخوين والتشكيك. فأعفينا أنفسنا من متابعة مسار ترس العجلة الضخم. الى أن صارت بلادنا مسرحاً رئيسياً لحروب التغيير الكوني.
فالعدو، الذي لم يعد واحداً، لم يعد يوحدنا. ونموذجا النهضة المصريان صارا من المستحيلات. فانتاج النهضة، في ظروف بلادنا الخاصة، كما حققها الغرب بثوراته الصناعية والسياسية والثقافية، لم يعد ممكناً وها هو زمان عجز الدولة القطرية عن تحقيق متطلبات حياة الجماعة أو الجماعات يطل برأسه. ومن يتمنع عن الاستجابة لعناصر الضغط في بنيته، ها هي قوة التغيير الكوني تحيل هدم الدولة القطرية في بلادنا بكل مكوناتها الى عنوان، بعد أن كان في زمن ما همساً أو هواجس. فاستحالت ثرواتنا ومواردنا الى لعبة وكابوس.
قبل عشرين عاماً، بالتمام والكمال، صرخ الكاتب اللبناني غسان سلامة، وأصدر كتيبه الصغير laquo;نحو عقد اجتماعي عربي جديدraquo;. وفيه صاغ للمرة الأولى مفهوم laquo;اللحظة الليبرالية في المشرق العربيraquo;. ودعا الى انتاج عقد اجتماعي تكون الدولة العربية فيه طرفاً، والمجتمع الأهلي والمدني طرفاً آخر من هذا العقد وفيه ايضاً رؤية نادرة، بأن نظاماً عربياً جديداً، اجتماعياً وسياسياً، هو قيد الظهور والتشكل. وان الخيار المتاح أمامنا، هو: إما أن نسهم ونشارك بشكل سلمي في إنشاء هذا النظام، أو أن ندعه يظهر لوحده، مكتوباً وفقاً لمنطق القوة والإجبار ولمصلحة القوة أو القوى الأجنبية.
لم يكن حينها في العالم العربي قد طفا علىالسطح من أحداث ما يؤكد رؤية سلامة. فالركود المقيت كان يسكن المنطقة العربية. باستثناء لبنان، الذي كان يعيش سنوات حربه الأهلية المدمرة الأخيرة، ليفضي بعد عامين الى اتفاق الطائف، وهو عقد اجتماعي جديد وموقت. وحتى هذا العقد، الذي أوقف الحرب، ومنح الناس فرصة التقاط الأنفاس، جرى تجميده وشلّه، لأسباب متعددة تتصل بممانعة المنطقة العربية وعجزها في وجه التحول.
من المفارقات الخطيرة، والإغريقية في مأسويتها، ما لوحت به المعارضة اللبنانية أخيراً وهو العصيان المدني. الذي هو في مضمونه دعوة لانهيار الدولة الحديثة بالكامل، والعودة الى التشكيلات الاجتماعية الأولية المكونة للجغرافيا اللبنانية. ومن نافلة القول، ان العصيان المدني هو مفهوم انتجته الشعوب وحركات التحرر الوطني في مرحلة تخلصها من الاستعمار، عبر رفضها الصيغة laquo;الكولونياليةraquo; كعقد اجتماعي وسياسي لحياتها.
المخيف، حد الرعب، هو تحول القوى المدنية والسياسية في بلادنا الى تصور إمكان استخدام أي سلاح في متناول اليد في صراعها مع خصومها لا أعدائها، حتى لو كان هذا السلاح يوصل الى الهدف الذي تحدثه القوة الأجنبية، وفق منطق التغيير الذي تراه في المنطقة العربية.
لم نطرح أسئلتنا الحقيقية على أنفسنا سابقاً. بل لم نمتلك القدرة على ذلك لاحقاً. واستمرأنا توصيف الغرب لأحوالنا، فالنكوص بدأ حين ضحينا بالمشاركة الشعبية الحقيقية في عملية التنمية. وهو ما أوصلنا الى تمجيد الاستبداد وتبريره، تحت شعار ان المعارك الوطنية والقومية هي معارك عسكرية.
التعليقات