خلف الحربي


قبل مجيء وزير الثقافة والإعلام الحالي كانت علاقة المواطن بالكتاب تتخذ شكلا من أشكال كوميديا المأساة، حيث كان تهريب الكتب يعد من أكثر العادات شيوعا في البلاد، فموظفو الجمارك والإعلام في المطارات يعلمون أنك تحمل كتبا (طبعت في الخارج لمؤلفين يقيمون في الداخل) ويدركون أنها كتب عادية جدا ولكنها (غير مفسوحة)؛ لذلك هم يغضون النظر عن مصادرتها بشرط عدم تعكير مزاج الموظف، أما في المنافذ البرية فأنت تحتاج إلى الاتصال بصديق كي تمر كتبك بسلام.

كانت القاعدة السهلة هي منع الكتاب تجنبا لأي صداع محتمل أو زكام مفاجئ أو حكة أسفل الأذن، أما الاستثناء فهو الفسح، وهكذا تميزت وزارة إعلامنا العتيدة بكونها الوحيدة بين مثيلاتها التي لا تمنع الكتب بل تفسحها!!

ومفردة (الفسح) بحد ذاته تكشف الضيق الشديد في مساحة الحركة وتساعد على تصور حجم الزحام الخانق من الشروط الرقابية القاسية.

وقد تطورت هذه المفردة مع الأيام حتى تحولت إلى مصطلح خاص بالإعلام السعودي يعرفه كل ناشر ومؤلف وموزع، ولكن أحد الناشرين العرب لم يحفظ هذه الكلمة جيدا فقال لوكيله في اتصال هاتفي: quot;دخلك، شو صار بالفسخ؟!quot;.

كان الناس (ومازالوا) يسافرون خصيصا لشراء الكتب أو يوصون صديقا ينوي السياحة بجلب زاد العقل ويحرصون على كتابة قائمة الكتب التي يريدونها بخط واضح، وكلهم أمل في ألا تضيع هذه القائمة خلال البرنامج السياحي المزدحم.

ولم تكن هذه (المهربات) كتبا سياسية خطيرة أو مؤلفات تمس الثوابت، بل هي كتب تاريخ ونقد وفلسفة وقصص وأشعار (تخيلوا كل هذا المشوار من أجل قصيدة!)، وكانت المفارقة في بعض الأحيان أن مؤلف الكتاب المهرب يكون مسؤولا في الدولة أو أستاذا جامعيا ينشر مقالاته في الصحف المحلية، أو شخصا ما يسكن إلى جوار منزلك ومع ذلك فأنت تحتاج إلى أن تسافر بعيدا كي تقرأ له!.

ونحن لا نقول إن وزارة الإعلام اليوم قد رفعت وصايتها الحديدية عن الكتاب وآمنت فجأة بحق الإنسان في اختيار ما يقرأ، ولكنها بعد الاضطلاع بمهمتها الثقافية الجديدة بدأت تستشعر حاجة المجتمع للقراءة، وأدركت ـ نوعا ما ـ أن الأجيال الواعدة التي نشأت في فضاء العولمة المفتوح، لا غنى لها عن القراءة؛ كي تتخيل وتفكر وتبدع وتخترع وتنتج، فالعالم كله يدين لألمانيا بما أنتجه فلاسفتها من أفكار بالقدر الذي يدين به لها بإنتاج السيارات قبل 120 عاما، ويحفظ أشعار مبدعي فرنسا بقدر ما يحفظ لها جميل اكتشاف الجراثيم، وتبهره السينما الأمريكية بقدر ما أبهره صعود الأمريكان إلى القمر.. إنه الخيال أساس كل واقع جديد!

رئيس تحرير شمس السعودية

[email protected]