أنيس منصور

كنت معجبا بالمستشرق الفرنسي لوي ماسنيون (1883- 1962)، فقد كان مقررا علينا أن ندرس كتابه عن (عذاب الحلاج)، وهو تحفة في الصوفية. وكان الأستاذ ماسنيون من الأساتذة الذين يلهمك الثقة به.. فهو رجل جاد.. وهو رجل تعب كثيرا. وينطبق عليه المثل الانجليزي الذي يقول: وأنت تقرأ له تشم رائحة القنديل ـ رائحة المصابيح، التي يعمل على ضوئها ساعات طويلة. وكنا على موعد معه. ولم يكن المكان هو كلية الآداب جامعة القاهرة، وانما كان يدعونا الى دير الرهبان (الدومنيكان).. أي الكاثوليك.. وأنا أكثر الناس ترددا على الدير. حتى ظن بعضهم أنني من الرهبان، وكانت تربطني صداقة قوية بالأب قنواتي والأب بولا نجيب.

وجاء الأستاذ ماسنيون ومن ورائه عدد من الرهبان والراهبات، يتقدم الجميع الأب قنواتي. وكنت أجلس في الصف الأخير.. وقد أعددت ورقي وقلمي وتهيأت تماما لأستمع إلى ما أحببت سنوات طويلة.. وقدم الأستاذ ماسنيون. وفوجئت بأنه يتحدث عني وعن مدى حفاوتي بالفلسفة المسيحية، وأن أجدادي من منطقة الألزاس واللورين.. وأدهشني أن يقول ذلك، ثم ما علاقة هذا بما سوف يحاضرنا فيه.. وفجأة قال: إنما أردت أن أقدم لكم شابا نذر نفسه للفلسفة والدراسة المقارنة بين الأديان.. وقد أسعدني في إحدى المناقشات وأريده اليوم أن يشرككم بما قدمه لي. وسوف أقرأ لكم صفحات من البحث الذي قدمه وعنوانه: بل هناك فلسفة وجودية مسلمة أيضا. وقرأ.. وقرأ. وفجأة طلب مني أن أكمل ما جاء في البحث على أن نتناقش فيه بعد ذلك!

هل الذي أصابني دوار؟ أكثر؟ هل هي حيرة وقلق وخوف؟.. وبسرعة أصلحت نفسي على نفسي. وقلت، بل أعرف أكثر من كل الحاضرين في الفلسفة الوجودية وفي الفلسفة الألمانية، وأستطيع أن أقول، وأن أناقش.

أكذب لو قلت إنني أتذكر الآن بالضبط ماذا قلت.. ولكني حكيت.. وأحسست أن رأسي فوق كتفي.. وأن رأسي في الهواء وإنني بلا جسد.. كأنني مشنوق إلا قليلا.. أو كأنني روح بلا جسد.. ولا أعرف كم من الوقت مضى.. ولكن جاءني الأستاذ ماسنيون يهنئني وكذلك الأب قنواتي.. وكان الذي يهمني أكثر هو ما قالته مادلينا صديقتي المستحيلة. لقد قالت: تعمقت جدا في الفلسفة وأسرفت في استخدام الكلمات اليونانية واللاتينية والألمانية، ولا أظن أن كثيرين لم يدركوا تماما ما تقول، إلا إذا كان في نيتك أن تقول إن جدتك من أصل ألماني فرنسي.. إن كان هذا المعنى فقد نجحت. لكن للأمانة أنا فهمت تماما ما هي الوجودية. وبصراحة لم تسعدني المفاجأة. فقد كنت أفضل أن أستعد لها أكثر وأوضح وأيسر.