عبدالله بن بخيت
رفع عدد من المواطنين اليمنيين دعوى قضائية على الحكومة الليبية يطالبون فيها بتعويضات عن ضحايا الألغام التي أرسلها العقيد معمر القذافي إلى اليمن في ثمانينيات القرن الماضي، كما تقول جريدة الجزيرة يوم أمس الأول، وقد طالب الضحايا بتعويضات مماثلة للتعويضات التي قدمها العقيد لضحايا طائرة لوكربي. على حد علمي تعد هذه المطالبة الأولى من نوعها التي ترفع على رئيس عربي أمام قضاء عربي.
بكل المقاييس لا يمكن لأحد أن يأخذ هذه الدعوى بأدنى درجة من الجدية. ليس لأن الضحايا لا يستحقون التعويضات، ولكن الأمر يستند على فارق القوة بين الضحايا الأمريكان والضحايا اليمنيين. استخدم المحامي في دعواه الشعارات الإنسانية الحديثة، مثل حقوق الإنسان والقانون الدولي والعدالة.. إلخ. وهي شعارات مازالت تلقى ممانعة من الشعب الذي ترفع من أجله. لو تتبعنا تاريخ العدالة والشعارات التي تساندها عبر الجغرافيا لن نجدها تتحرك وحدها. عندما نتحدث عن عدالة القضاء في بريطانيا أو في السويد لا نتحدث في الواقع عن قاضٍ عادل ومحكمة نزيهة مستقلة، ولكننا نتحدث عن الشعب السويدي والشعب البريطاني وتركيبتهما المتوازنة. نحن نتحدث عن تكافؤ القوة بين الأطراف التي تقف أمام هذا القضاء، حتى وإن كان التقاضي بين وزير جبّار وأجير صغير في مطعم. فالأجير مهما تواضع حجمه يمتلك قوة متوزعة في الفعاليات الاجتماعية المختلفة التي نسميها هذه الأيام المجتمع المدني. هذه القوى ليست بالضرورة متفقة على حس العدالة، ولكن المصالح أصبحت أكبر رابط.
فالصحافة سوف تهب لنصرة الأجير ليس لأنها تميل بطبعها نحو العدل، ولكن لأنها تمتلك قوة ذاتية يمكنها بهذه القوة وعبر استغلال هذه القضية أن تحقق مكاسب توزيعية بإحداث ضجة. والنقابة التي ينتمي لها هذه الأجير لا يمكن أن تقف صامتة ليس لأنها مسؤولة عن هذا الأجير فحسب ولكن لأن مصالحها تقوم على تحريك الحكومة واتهامها. والحكومة بدورها سوف تتحرك خشية من الانتخابات المقبلة التي سوف يقف فيها ملايين من أمثال ذلك الأجير ليصوتوا لها أم عليها، وهكذا يضطر القاضي أن يميل إلى الحق وطريق الصواب. في الدول الحديث تتوزع القوة وتتشرذم بين مجموعة كبيرة من الفعاليات على عكس الدول القديمة ومجتمعات الماضي حيث تتركز القوة في أيد قليلة جداً وتستخدم بالصورة التي تخدم مصالح تلك القوى.
إذا نظرنا للعالم والعلاقات الدولية سوف ننظر أيضاً إلى مجتمع تتركز فيه القوة بين أطراف قليلة. فالعدالة التي تعرض لها القذافي على خلفية لوكيربي كانت عدالة القوة بامتياز، ولنا في محاكمة صدام حسين أفضل دليل. ردد الرئيس بوش كثيراً قوله إن صدام حسين يواجه العدالة التي حرم شعبه منها طويلاً. بينما هو في الواقع كان يقول إن صدام حسين سوف يتذوق أخيراً عدالة القوة التي سام بها شعبه طوال ثلاثة عقود.
لم يحاول صدام حسين توزيع القوة بين أبناء شعبه من خلال بناء مجتمع مدني متعادل القوى، بل سعى إلى تركيزها في يده وفي أيدي محاسبيه إلى أن جاءته عدالة القوة الدولية التي هي أكثر قوة من قوته. هل هذا يعني أن ما يقوم به المحامي اليمني عمل عبثي؟ لا أحد يستطيع أن يتنبأ بالمستقبل، ولكن الأكيد هو أن العالم الجديد بدأ يطل برأسه على العالم المغرق في سباته منذ قرون. فالمحامي اليمني لا يحاكم القذافي ولا يملك القوة أو الآليات التي تفرض على القذافي أو غيره المثول أمام القضاء اليمني من خارج اليمن، ما يقوم به لا علاقة له بالقذافي وإن تذرع به ولكنه خطوة من خطوات طويلة لإيقاظ شيء اسمه المجتمع المدني في دول العالم الثالث.
التعليقات