السبت 24 مارس 2007
د. حسن مدن
التضاريس درس الجغرافيا الأول في المدرسة. هناك تعلمنا الكلمة أول مرة، ولفترة ظننا أنها واردة فقط حين يدور الحديث عن الأنهار والبحار والجبال والسهول والسفوح، حيث ذلك التنوع المدهش في التفاصيل وفي المناخات وفي وسائل الحياة. لكن الحياة تعلم أن التضاريس ليست حكر الجغرافيا وحدها. إن في الحياة، وفي المجتمع، ثمة تضاريس، وان في النفس الإنسانية كذلك شيئاً من هذه التضاريس، وهنا كما هناك تتجسد التناقضات والفروقات.
لنأخذ أي مجتمع من المجتمعات، ولنلاحظ تضاريسه، التي هي مجمل التناقضات والتعقيدات وشبكة العلاقات فيه، ولنلاحظ أن سلوك البشر إنما يتكيف تبعا لهذه التناقضات، فهناك مستويات مختلفة من التعامل تفرضها هذه التضاريس. إن الناس في الواقع لا يسلكون خطاً مستقيماً واحداً يؤدي إلى النهاية السريعة أو إلى الوصول المحقق لما يتوخونه، فهم يضطرون للصعود حيث تكون الموجة عالية، ويضطرون للهبوط حين تنحسر. والأمر يتطلب ولا شك مهارة تبدو لدى البعض موهبة فطرية، وتبدو لدى البعض الآخر خبرة مكتسبة من كثرة المران.
التضاريس أكبر من القوالب الجاهزة، وهذه الأخيرة غالباً ما تفشل في الإحاطة بما تنطوي عليه هذه التضاريس من تفصيلات، وسبب فشل أو إخفاق الكثير من المشاريع التحديثية العربية هو استخفافها بما في الواقع من تضاريس، وتعاملها مع هذا الواقع كما لو كان سطحا مستويا خاليا من المنعطفات والمفاجآت، حين لم تحسب الحساب الكافي لتعقيدات هذا الواقع، التي تتطلب الدراسة والتمعن والتمحيص، لأن إسقاط عامل من عوامل هذه التضاريس جدير بأن يصيب من مشروع بكامله مقتلاً، وهذا ما برهنت عليه تجارب العقود الماضية.
تضاريس النفس الإنسانية تبدو أشد تعقيداً، فمهما بدا لك انك تعرف الآخرين من الناس، بمن فيهم الأشد قربا إليك، تفاجأ بأن ثمة منطقة، تضريساً من التضاريس، نتوءاً من النتوءات مجهولاً بالنسبة إليك. حتى النقلات المفاجئة في مزاج الناس من السعادة الغامرة إلى الكمون أو الحياد أو حتى الكآبة تبدو أحيانا خارج أي معيار أو توقع، وللأمر أسبابه بالتأكيد، لكن وضع اليد على هذه الأسباب ليس من السهولة أبدا، حتى بالنسبة للشخص الذي يجد نفسه ضحية هذه النقلات الحادة.
معرفة الناس للتضاريس النفسية، الروحية والوجدانية، لبعضهم البعض، هي سر نجاح وديمومة العلاقات البشرية الحميمة، وهي معرفة تنشأ ثمرة للتدريب الطويل، والمران القادر على اكتشاف عوالم الآخر وبلوغ المكامن البعيدة في ذاته، والإصغاء المرهف له حين يبدو شديد الحاجة لمن يسمعه أو يواسيه ويربت على كتفه.
داخل كل إنسان سلسلة من التضاريس، سلسلة من النتوءات، لا سبيل لإلغائها بجرة قلم أو برغبة أو أمنية، علينا قبولها والتعاطي معها بأناة وصبر، ونحن في المحصلة النهائية مختلفون لأننا لسنا سوى تضاريس نفسية مختلفة، وشرط تعايشنا هو قبول هذا الاختلاف، والتعود على استيعابه.
التعليقات