سليمان تقي الدين


لم تعد الأزمة في المؤسسات الدستورية، انتقلت إلى الشارع ومنه إلى عواصم القرار الإقليمية والدولية. لم يعد الحل مسألة غامضة أو صعبة الإخراج بين المحكمة والحكومة. لقد اكتملت عناصر التسوية، لكن لم تتوفر الرغبة والإرادة. المشكلة فعلاً أن القوى السياسية، وهي لا تخفي ذلك، عيونها على تطورات المنطقة وليس على الداخل. هناك قراءتان، الواحدة تناقض الأخرى. الفريقان في انتظار انقلاب كبير في التوازن الإقليمي. الحسابات الداخلية مؤجلة. لقد باتت المواعيد اللبنانية مرتبطة باجتماع بغداد أو اسطنبول أو القمة العربية أو مجلس الأمن. الجميع ينتظر كيف سيدور الدولاب الأميركي، إلى الأمام أم إلى الوراء. هذا ما يقال سراً خارج التصريحات العلنية، laquo;لا نشتري بضاعة في عز الموسم، كلما تأخرت التسوية خفت أو تراجعت الشروطraquo;. هكذا عبّر أحدهم.

حجم الرهانات السياسية يحجب أية قراءة موضوعية. عبثاً تقول لهؤلاء المراهنين، انظروا ما يحصل في الداخل الإسرائيلي، أو ما يدور من حركة اتصالات دبلوماسية، أو ما تأكد من رغبة إقليمية عربية وإيرانية في تطويق الأزمات لمنع الانهيار الشامل والفوضى.

عبثاً تقول إن الجغرافيا والديموغرافيا في لبنان لا تتغيّر بالسرعة نفسها للتحولات السياسية. والأصعب من ذلك كله إقناع البعض أن الحرب هي امتداد للسياسة بوسائل أخرى. خذوا في السياسة ما يصعب أخذه بالحرب!
لو أن المجلس النيابي يمكن له أن يساهم في معالجة الأزمة، لكان التوجه إليه والسعي إلى فتح أبوابه مهمة وطنية. لو كانت الأكثريات النيابية قادرة وحدها على توجيه دفة البلاد، لما كنا في مأزق وطني عنوانه الخلاف على أساسيات في وجود الوطن. لو أن المؤسسات الدستورية هي المرجع الفعلي الذي يضبط سلوكيات القوى السياسية جميعها، لما كنا نبحث اليوم عن سلطة الدولة التي يتقاسمها زعماء الطوائف وفقاً لآخر تصنيف للمراتب والكفايات في إدارة الحكم كما أقره الطائف.

والأدهى من ذلك، أن أقطاب السياسة يعرفون قواعد اللعبة، وهم أسيادها، وأسيادنا نحن بغير استئذان، ومع ذلك يتبارون في تجميلها بلغة ومصطلحات الديموقراطية. لكن الأمانة تقضي تعميم المسؤولية على الجميع، وشكرهم في الوقت نفسه على هذا laquo;التهذيب المشتركraquo; في قراءة الأزمة دستورياً وقانونياً بدلاً من laquo;التكاذب المشتركraquo; أو من الخطاب الطائفي والمذهبي المفضوح.

لم يكن المجلس النيابي في لبنان تاريخياً سلطة خارج حراك الشارع. يؤدي المجلس دوره في laquo;الحوار الوطنيraquo; حيث هناك حوار لا شوارع منقسمة مرسومة بالمتاريس. إذا انقسم الشارع يجب تحييد المجلس ليكون في اللحظة المناسبة الإطار الشرعي للكذبة الديموقراطية اللبنانية، لمؤتمر العشائر والملل والنحل. هذه هي التجربة اللبنانية يوم كانت الحياة السياسية أكثر انفتاحاً، والتعددية السياسية داخل الطوائف موفورة ومتاحة، والنواب على الأقل، ليسوا مختصرين ببضع مرجعيات طائفية. برلمان اليوم ليس أكثر من خمسة نواب، هم وكلاء الطوائف الذين يسيطرون على المسرح لوحدهم.

ما كان رئيس مجلس النواب بحاجة إلى هذه المطالعة بالقانون والنظام الداخلي ليبرّر تجنيب المجلس كأس الانقسام والصدام والتداعيات في الشارع. لن تمر القرارات بالتصويت وبرفع الأيدي بل من خلال القبضات والحناجر. الأزمة لا تحتمل هيئة حوار موسعة، فكيف بكتل نيابية تضم عشرات الشبان الذين يفيضون حيوية ومواهب في الهجاء السياسي كما نراهم على المنابر. حقيقة الأزمة تختبئ خلف شعار laquo;المحكمة والحكومةraquo;، هي الشراكة في القرار بين محورين كل منهما يتوصل مواقع السلطة لترجيح خياراته. عيونهم على واشنطن وطهران والرياض ودمشق وباريس، وبعضهم للأسف أيضاً على تل أبيب.

لن يكون مجدياً تذكير القوى السياسية باتفاق الطائف. بالثوابت الوطنية والمسلمات، بالاتفاق على الهوية والشراكة. لا أحد يستطيع أن يملك السلطة في لبنان، حتى لا نقول laquo;يحتكرهاraquo; إلا ويدفع البلاد إلى امتحان القوة. إذا طال أمد الأزمة لا يفك العقدة إلا السيف كما يقال في العلم العسكري. هنا استحالتان، كيف نصنع منهما تسوية: لا عودة لعهد الوصاية السورية، ولا لحكم البلاد بمعزل عن القوى التمثيلية. وما زاد عن حده انقلب إلى ضده. ونكاد نتهم: هناك سياسات تستدرج أسوأ أنواع التدخل السوري، وتحشر الآخرين للتفكير بالانقلاب.
حبذا لو أن المهاجرين من الطائف يأتون إلى مكة وليس أبعد من ذلك!