وليام فاف

في ساحة الفعل والعمل، ينبغي أن يكون التمييز الأخلاقي حاسماً، بين الممكن والواجب، وبين الرغبة والإمكانية. وعلى صعيد السياسة الداخلية المحلية، فليست ثمة مشكلة تذكر في هذا، بالنظر إلى قدرة القاعدة الانتخابية عادة على فهم الاختلاف بين ما هو مرغوب ومحبذ، وبين ما يمكن عمله فعلياً. وضمن ذلك فإن المرشح الذي يعِد الناخبين بخفض معدلات الضرائب، أو دعم بناء قاطرات أسرع، أو بإلغاء الرسوم السنوية المفروضة على مستمعي quot;هيئة الإذاعة البريطانيةquot; أو تمديد فترة الدعم الحكومي المقدم لمراحل التعليم ما قبل المدرسي في الولايات المتحدة، أو بزيادة حجم الخدمات العسكرية، إنما يكون مرشحاً يلعب على حبال ما هو ممكن وقابل للتطبيق والتنفيذ. وعادة ما يدلي عدد كافٍ من الناخبين بأصواتهم لمثل هذه القضايا والوعود، بالنظر إلى إمكان حدوثها والوفاء بها من قبل المرشحين. وعليه فإنه ليست ثمة مشكلة عضوية في القيام بما تصوت من أجله الغالبية الناخبة. وهذا هو ما يفهمه الناخبون أنفسهم. ولهذا السبب فإن لأصواتهم قيمتها وأهميتها من حيث تأثيرها على ما جرى الاتفاق عليه وتقريره سلفاً، مع العلم بإمكانية تحقيق ما اتفق عليه عادة.

أما على صعيد الوعود الانتخابية الخاصة بالسياسات الدولية، فذلك أمر مختلف جداً. والسبب أن هذه القضايا لا تكون متعلقة بالدولة التي ينتمي إليها الناخبون، ومن ثم فهي ليست مما يعلمه هؤلاء عن ظهر قلب. وليس ذلك فحسب، بل إن القرارات والمنافسات التي تتم في دولة أجنبية، ليست مما يجري في إطار قانوني يدركه حق الإدراك مواطنو الدول الأخرى، خارج تلك الدولة المعينة. ومن هنا فإن التعامل في مجال العلاقات الدولية، إنما يتم مع قوى وعوامل خارجية، تظل مجهولة بالنسبة لمواطني الدول الأخرى. وهذا ما يجعل الإلمام بهذه القضايا والعلاقات، محصوراً في دائرة مهنية ضيقة للغاية، سواء أكان أفراد هذه الفئة من الأكاديميين الجامعيين، أم من المنتمين إلى المؤسسات والدوائر المتخصصة، أم من العاملين في السلك الدبلوماسي في حكومة الدولة المعينة.

بقي أن نضيف أن هذه الفئة نفسها، قد لا تكون على إلمام كافٍ بالقضايا هذه، وكثيراً ما تسود الخلافات بينها. وبالنتيجة، فإنه عادة ما يتم التعامل مع هذه القضايا، على صعيد الحوار القومي العام، انطلاقاً من الشعارات والتبسيطية الساذجة المُخلة. ولعل هذا الافتقار الكبير للفهم المطلوب لطبيعة العلاقات الخارجية -على نحو ما يتجلى في الحوار العام- هو الذي يفسر انتهاء هذا الحوار في كثير من الأحيان إلى الخلط بين ما هو مرغوب وما هو ممكن تنفيذه وتطبيقه عملياً. ولعله يفسر لنا كذلك، كيف انتهى الحال بساسة وقادة على شاكلة الرئيس الأميركي جورج بوش، وحليفه توني بلير، إلى هذا الخلط المريع بين ما هو واجب وإلزامي القيام به في العلاقات الدولية، وبين ممكناتها القابلة للتحقق، ومن ثم انسحاقهما معاً تحت وطأة عدم الفهم والتمييز بين سياسة الواجبات الخارجية، وسياسة الممكنات.
وما من شيء ألحق الدمار السياسي الشامل بتوني بلير تحديداً، أكثر من قفزته الغريبة من الاعتقاد بأن صدام حسين كان طاغية وحشياً باطشاً، تجب إزالته واستبداله بنظام أفضل منه، إلى الاعتقاد الساذج الغريب، بسهولة إمكان تحقيق هذا الهدف. عندها وتحت قوة وعنفوان ذلك الدافع الأخلاقي، اختلطت على بلير مياه الواجب والممكنات، وسرعان ما ساد عنده الاعتقاد بالسهولة المطلقة لتحقيق ذلك الهدف، طالما أنه هدف مرغوب فيه ومحبذ، بدرجة لا تقبل الشك ولا الجدل.

أما صديقه جورج بوش فيختلف عنه نوعاً ما، من ناحية أن له نظرية خفية غير معلنة على الأقل، حتى وإن كانت تلك النظرية غير مسؤولة -إن لم نقل طائشة- عن التاريخ. وتنطوي هذه النظرية على اعتقاد راسخ لدى بوش، بأن العالم كله يتحرَّق شوقاً لاستنساخ النموذج الأميركي. وقد دفعته تلك النظرية إلى الاعتقاد بضرورة تحويل كافة النظم الديكتاتورية المنتشرة في شتى أنحاء العالم، إلى ديمقراطيات، وإن استدعى هذا التحول تغيير الأنظمة الشمولية الحاكمة، واقتلاعها بالقوة. وعلى رغم وصفي السابق لهذه النظرية بالسرية والخفاء، إلا أنها في واقع الأمر هي عين النظرية التي برر بها بوش أفعاله. غير أن بوش نفسه وكذلك أفراد طاقمه ومؤيديه، إنما انطلقوا نحو غزو العراق واحتلاله، مدفوعين في ذلك بدوافع واعتبارات عملية بحتة، متمثلة في وضع اليد على موارد النفط العراقية الهائلة، ما أن تبسط الولايات المتحدة سيطرتها على العراق، وتبقيه تحت إمرتها واحتلالها. ومن هذه الدوافع والاعتبارات العملية أيضاً، تحقيق رغبة إسرائيل -باعتبارها حليفاً استراتيجياً لأميركا في المنطقة- في تدمير القوة العسكرية العراقية. وإلى ذلك كله، فإن هناك اعتبارات عملية شخصية أو عائلية أخرى -ربما لم يتم الإفصاح عنها مطلقاً- لها صلة بماضي العلاقة والتعامل السابق بين عائلة بوش ونظام صدام حسين.

وهناك ما يكفي من الأدلة على تخطيط بوش ونائبه ديك تشيني في غزو العراق، قبل وقت سابق لهجمات 11 سبتمبر بكثير. ولذلك فقد وفرت لهما تلك الهجمات، الذرائع والمبررات لتنفيذ مخططاتهما تلك. وهذا هو ما يفسر نسج الكثير من خيوط quot;نظرية المؤامرةquot; حول دوافع ومرامي الغزو الأميركي للعراق. ومهما كان من أمر هذه النظريات ومدى صحتها، فإنه ما كان ممكناً لبوش أن يخطو خطوته هذه نحو الغزو العسكري، لم لو يكن على أتم القناعة بالنهايات الناجحة الأكيدة لنظريته المذكورة أعلاه بشأن التحول الديمقراطي.

بقي أن نقرر إذن، أن هذا الخلط المستمر بين الواجبات والممكنات، كثيراً ما يشيع في التفكير السياسي المتعلق بالشؤون الخارجية، وفي الكثير من الحوار والجدل الدائرين حول هذه الشؤون، بما في ذلك الخلط الحادث بين المهنيين في السلك الدبلوماسي أنفسهم. ودونك عشرات الأمثلة على هذا في واشنطن. فقد وصفت الحكومة الأميركية الوضع الماثل في دارفور بأنه quot;إبادة جماعيةquot;، ثم اتفق الجميع على ضرورة فعل شيء ما لوقف هذه الجريمة... ولكن ماذا بعد؟ من بين الاقتراحات المطروحة، أن تقدم الولايات المتحدة أو حلف quot;الناتوquot; أو فرنسا، على قصف أفراد مليشيات الجنجويد، المتهمة بارتكاب المجازر بحق لاجئي الإقليم من المدنيين العزل الأبرياء. ولكن هل يساعد إجراء عسكري كهذا على حل المشكلة؟ كلا بالطبع، لكونه لن يفعل شيئاً سوى زيادة المأساة مأساة. وبعد، فهل ترغب واشنطن في إرسال بضعة آلاف من جنودها لوقف تلك المجازر، واضعين في الاعتبار أن تلك النزاعات إنما تنشأ في الأساس عن تنافس ذي طبيعة دينية قبلية، يؤجج نيرانه ويزيدها التهاباً، نقص مياه الشرب والمراعي والأراضي الزراعية، جراء التأثيرات السالبة للتغير المناخي؟

إن أرض الواقع وحدها، هي القادرة على تعليم الساسة الحالمين، درس التمييز ما بين quot;واجباتquot; السياسة وquot;ممكناتهاquot;.