بلال الحسن


أظهرت الانتخابات الداخلية لحزب العمل الإسرائيلي، احتمال فوز ايهود باراك بزعامة الحزب، وذلك في جولة الانتخابات الثانية التي ستجرى يوم 12/6/2007. وإذا حدث ذلك فإن مستقبلا سياسيا جديدا سينفتح أمام باراك، ومن المرجح أن يتولى وزارة الدفاع في حكومة مشتركة بين حزبي العمل وكاديما، ومن المحتمل أيضا أن يصبح رئيسا للوزراء بعد أن تجري انتخابات نيابية جديدة في إسرائيل، يفوز فيها حزب العمل، بعد أن تدنت شعبية حزب كاديما وشعبية رئيسه ايهود اولمرت إلى نسب لم تحدث من قبل (2%).

وكان ايهود باراك قد فاز في الانتخابات الإسرائيلية عام 1999 كزعيم لحزب العمل، موقعا هزيمة بحزب الليكود وبزعيمه بنيامين نتنياهو، وقاد بعد ذلك مفاوضات مع الرئيس الراحل ياسر عرفات في شهر7/2000 في منتجع كامب ديفيد برعاية الرئيس الأميركي بيل كلينتون، ومن أجل صياغة اتفاق للحل النهائي للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وانتهت تلك المفاوضات إلى الفشل، وأدت أيضا إلى سقوط باراك في انتخابات عام 2000، حيث برز في الساحة السياسية آرييل شارون كزعيم جديد لإسرائيل.

فشلت مفاوضات كامب ديفيد بسبب طبيعة الحل الذي اقترحه باراك، وهو حل كان يقوم على قاعدة الصفقة الشاملة التي ترفض كلها أو تقبل كلها. وهي خطة استندت إلى مبدأ laquo;المساومةraquo; على أرض الضفة الغربية، رافضة الاستناد إلى القرار 242، أو الاستناد إلى مبدأ الانسحاب الإسرائيلي إلى حدود 1967. ولكن المفاجأة كانت حين بدأت بعد فشل المفاوضات، حملة إعلامية مكثفة تحمل الفلسطينيين، وتحمل الرئيس الراحل ياسر عرفات بالذات، مسؤولية فشل المفاوضات. وقد بدأ هذه الحملة الرئيس الأميركي بيل كلينتون، بدءا من المؤتمر الصحافي الذي عقده فور انتهاء المفاوضات. ورغم أن كتابات عديدة ظهرت بعد ذلك وكشفت مسؤولية باراك في إفشال المفاوضات، وكذلك مسؤولية الرئيس الأميركي الذي انحاز إلى جانب الطروحات الإسرائيلية بشكل كامل، إلا أن الحملة الإعلامية واصلت طريقها، حتى أن البعض يتفاءل الآن، أنه إذا عاد باراك إلى الحلبة السياسية فإن مشروعه للحل ولإنشاء دولة فلسطينية سيعود للظهور معه. فما هي درجة الصحة في مثل هذا التفاؤل؟ وهل كان باراك رجل سلام كما يقولون أم أنه كان ساعيا لفرض حل إسرائيلي يحقق مصالح إسرائيل ومن دون أي اعتبار لمصالح الفلسطينيين؟ يستدعي الأمر إلقاء نظرة سريعة على مواقف باراك من أجل إنهاء هذا اللبس في الفهم والتحليل.

أولا: لقد شاع أن نتنياهو هو الذي جمد تطبيق اتفاق اوسلو، رافضا تسليم الأراضي لسلطة الحكم الذاتي الفلسطينية (من 1996 ـ 1999)، بينما تظهر الوقائع أن باراك كان أشرس من نتنياهو في تنفيذ هذه السياسة، فهو:

ـ رفض قبل الذهاب إلى كامب ديفيد، تنفيذ إعادة انتشار جزئية ثالثة في الضفة الغربية، كان متفقا عليها في مفاوضات واي ريفر مع بنيامين نتنياهو.

ـ وهو رفض نقل ثلاث قرى مجاورة للقدس إلى السلطة الفلسطينية، بعد أن كان قد وافق على ذلك وبإشراف الرئيس كلينتون.

ـ وهو رفض إطلاق سراح المعتقلين الفلسطينيين قبل توقيع اتفاق اوسلو عام 1999.

ـ وهو استمر في توسيع المستوطنات القائمة، واستمر في بناء الطرق الالتفافية.

ثانيا: كان المبدأ الأساسي للمفاوضات منذ مؤتمر مدريد عام 1991، هو مبدأ (الأرض مقابل السلام). وعلى أساس هذا المبدأ ذهب الفلسطينيون إلى مفاوضات كامب ديفيد وهم يأملون بانسحاب إسرائيلي إلى حدود 1967، ولكنهم فوجئوا بخطة إسرائيلية تنطلق من مبدأ laquo;المساومةraquo; على أرض الضفة الغربية، وتتطلع إلى الاستيلاء على أجزاء كبيرة منها وضمها إلى إسرائيل، بحيث يستحيل بعد ذلك إنشاء دولة فلسطينية متواصلة جغرافيا، وتتحول أراضي الدولة الفلسطينية إلى كانتونات مجزأة تسيطر عليها إسرائيل، امنيا وجغرافيا واقتصاديا. وقد رفض الفلسطينيون مبدأ المساومة هذا، وأصروا على ضرورة اعتراف إسرائيل أولا بضرورة الانسحاب إلى أراضي 1967، وهو ما رفضته إسرائيل علنا، حتى أن الوفد المفاوض قال إن القرار 242 هو للتفاوض وليس للتنفيذ.

ثالثا: شاع أن الإسرائيليين اقترحوا انسحابا من 88% من أراضي الضفة الغربية، واقتراحا آخر بانسحاب من 91% من الأرض، ولكن هذه النسب (وبالرغم من رفضها من حيث المبدأ) كانت كلها خادعة، إذ أن إسرائيل كانت تعرض فعليا الاستيلاء على 25% من أراضي الضفة الغربية تحت مسميات laquo;الضمraquo; أو laquo;السيطرةraquo; أو laquo;الاستئجارraquo;. وحين نضيف إلى ذلك منطقتين: الاولى مساحة مدينة القدس الكبرى التي لا تعتبرها إسرائيل جزءا من الضفة الغربية، والثانية هي laquo;المنطقة الحرامraquo; الموروثة منذ اتفاق الهدنة عام 1948 والتي ترفض إسرائيل البحث بها وتعتبرها جزءا من أراضيها، وحين نضيف أيضا المساحات التي تريد الاستيلاء عليها من البحر الميت ومن غور نهر الأردن، وكذلك حين نضيف القواعد العسكرية التي تريد الاحتفاظ بها مع الطرق المؤدية إليها، وكلها طلبت في المفاوضات، نصل عمليا إلى أن إسرائيل تريد الاستيلاء على 40% من أراضي الضفة الغربية كشرط للتسوية، وكل هذا تتغاضى عنه الحملات الإعلامية الأميركية ـ الإسرائيلية.

رابعا: شاع في الإعلام أنه بسبب فشل مفاوضات كامب ديفيد، وبسبب سقوط باراك في الانتخابات وفوز آرييل شارون، بدأ نهج جديد في إسرائيل يسعى إلى رفض التفاوض، وإلى فرض الحلول من جانب واحد، وإلى بناء جدار الفصل العنصري، ولكن هذا الفهم خاطىء من أساسه، فصاحب هذا المشروع الذي نفذه آرييل شارون هو ايهود باراك نفسه. ففي مقابلة لباراك مع المؤرخ الإسرائيلي بني موريس في 13/6/2002، رسم تصوره للتسوية السياسية النهائية على الشكل التالي:

ـ وقف المفاوضات مع القيادة الفلسطينية وتنفيذ خطة إسرائيلية من جانب واحد.

ـ انسحاب إسرائيلي أحادي الجانب من حوالي 75% من الأرض.

ـ بناء جدار صلب حول إسرائيل غير قابل للنفاذ.

ـ العودة للتفاوض مع الفلسطينيين حين توجد قيادة جديدة (أي قيادة تقبل هذه الشروط الإسرائيلية).

وما فعله شارون بعد ذلك هو أنه طبق خطة ايهود باراك بالكامل، الأمر الذي يظهر أن هذا التصور الاستراتيجي للتسوية هو تصور متفق عليه بين التيارات كافة، خلافا للنظرية التي ترى فريق سلام في إسرائيل يواجه فريقا يرفض السلام.

ويمكن أن نستطرد هنا مذكرين بالمواقف الإسرائيلية الأخرى التي ترفض الإقرار بحق العودة للاجئين الفلسطينيين، وبالمواقف الإسرائيلية التي تريد الاستيلاء على القدس الشرقية، بل تريد حتى الاستيلاء على المسجد الأقصى، لنصل في النهاية إلى استنتاج ينسف أية نظرية تتحدث عن باراك كرجل سلام، أو عن باراك كزعيم إسرائيلي يؤمن بقيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، وينسف أية نظرية تتحدث عن احتمال قيام تفاهم بين آراء باراك ومبادرة السلام العربية. إن باراك إذا ما عاد إلى السلطة، فسيكون صورة مكررة عن أي زعيم إسرائيلي آخر، يطرح المواقف نفسها، وقد يكون أذكى من غيره، أو أبرع من غيره، أو أخبث من غيره، في أسلوب طرح المواقف والمطالب، ولكن الجوهر يبقى واحدا، وهو رفض قيام دولة فلسطينية مستقلة، إلا إذا كانت هذه الدولة مجرد كيان شكلي لإدارة شؤون الناس المعاشية، على أن تبقى كل قضايا السيادة والأمن والمياه والأجواء والمعابر بيد إسرائيل.

هذا هو باراك... فلا تتفاءلوا !