خالد الدخيل

يجب الانطلاق في هذا الموضوع من سؤال وليس من فرضية تبدو منطقية، ومدعومة بحالات تاريخية، لكنها سريعاً ما تتكشف بعد التدقيق بأنها فرضية مسبقة. هذا لا يعني أنه لا علاقة بين التخلف العلمي والاستبداد السياسي، لكن هذه العلاقة ليست إلا جانباً واحداً من القضية. الانطلاق من السؤال في هذه الحالة ضرورة علمية لأن الموضوع أكثر تعقيداً مما يبدو لأول وهلة. هل هناك علاقة بين التخلف العلمي والاستبداد السياسي؟ وإذا كانت هناك علاقة بين الحالتين، فما طبيعة هذه العلاقة؟ هل هي علاقة تضافر وتكامل؟ أم علاقة تضاد وتنافر؟ وهل تختلف هذه العلاقة من حالة تاريخية لأخرى؟ هذه وغيرها من الأسئلة يفرضها واقع تاريخي لحالة التلازم المزمن في العالم العربي بين التخلف العلمي والاستبداد السياسي. التخلف حالة تعاني منها كل البلدان العربية. والاستبداد السياسي هو الآخر ظاهرة تتميز بها كل الدول العربية، مع بعض الاستثناءات البسيطة. هناك فروق بين الدول العربية، لكنها فروق في الدرجة وليست فروقاً في النوع. من السهل جداً، بل ربما من المبرر لدى البعض في مثل هذه الحالة، الاستنتاج بأن علاقة التخلف العلمي بالاستبداد السياسي هي علاقة واضحة ومباشرة للنتيجة بالسبب، وأن التخلف العلمي يأتي هنا كنتيجة طبيعية لغياب حرية التفكير، وحرية البحث العلمي الذي تفرضه دائماً الطبيعة الاستبدادية للنظام السياسي الحاكم. يدعم ذلك ويؤكده أن حالة التخلف العلمي، ومعها التخلف الاقتصادي، هي في زمننا المعاصر تتجاوز النطاق الجغرافي العربي إلى ما هو أبعد من ذلك. فأبرز وأخطر سمات أغلب الأنظمة السياسية المستبدة في العالم هو تماهي هذه الأنظمة وانسجامها مع حالة التخلف العلمي للمجتمعات التي تحكمها.

الصورة الماثلة أمامنا إذن تؤكد أن هناك ترابطاً واضحاً بين الاستبداد السياسي كسبب، والتخلف العلمي كنتيجة طبيعية لهذا السبب. في المقابل، وهذا ما يضيف إلى تأكيد هذه العلاقة، حقيقة أن التقدم العلمي في الغرب، والازدهار الحضاري هناك حصل ويحصل في إطار دول تأخذ بالديمقراطية نظاماً سياسياً لها، وبالليبرالية أيديولوجية لهذا النظام، وتأخذ إلى جانب ذلك بمبدأ الاقتصاد الحُر. الصورة هنا، وعلى عكس حالتها في العالم العربي، تؤكد التلازم بين التقدم العلمي والطبيعة الديمقراطية للنظام السياسي، الأمر الذي يؤيد مرة أخرى فرضية أن الاستبداد السياسي هو العدو اللدود للتقدم العلمي.

كل ذلك قد يكون صحيحاً. لكن لننظر إلى الموضوع من زاوية أخرى. الحضارات التي سبقت الرأسمالية، وفي مقدمها الحضارات القديمة، ظهرت في إطار دول لا تتصف بالديمقراطية، ولا تعترف بكل المفاهيم المتداولة حالياً عن حرية التعبير، والتداول السلمي للسلطة، وحقوق الإنسان، والعلمانية... الخ. الحضارة الإسلامية هي التي سادت العالم مباشرة قبل الحضارة الرأسمالية، بل إن الأخيرة استفادت في نموها من الأولى كثيراً. لم تكن الدول لإسلامية تتصف بالديمقراطية، وخاصة منها الدولة العباسية بحكم أنها الدولة التي ازدهرت في ظلها الحضارة الإسلامية أكثر من غيرها. على العكس كانت الدول الإسلامية دولاً استبدادية. بل إن هذه الدول أسست للاستبداد اجتماعياً وسياسياً وفقهياً، بما جعل منه الأساس الشرعي الأول والأهم للدول العربية المعاصرة التي ورثت تلك الدول. وبالرغم من طبيعتها الاستبدادية ظهرت في كنف هذه الدول الإسلامية حضارة مزدهرة امتدت آثار تطورها وازدهارها إلى أرجاء العالم آنذاك، وخاصة العالم الأوروبي بحكم الجوار على ضفاف البحر المتوسط. ولعله من الواضح أن هذا يعني أن الطبيعة الاستبدادية للدول الإسلامية لم تقف حائلاً بينها وبين تحقيق مستوى عالٍ من التقدم العلمي، والتطور الحضاري بمقاييس مرحلتها التاريخية.

من ناحيتها ظهرت الحضارة الرأسمالية أول ما ظهرت في مراحلها الأولى، خاصة ما بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر الميلاديين، في ظل نظم ملكية استبدادية. بعبارة أخرى، وكما حصل في الحضارة الإسلامية، لم يمنع الاستبداد السياسي في أوروبا آنذاك انبثاق الحضارة الرأسمالية محققة بذلك تقدماً علمياً وتطوراً حضارياً غير مسبوق. هنا يجب الانتباه إلى جملة من الاختلافات المهمة وذات الدلالة بين الحضارتين، العربية الإسلامية والرأسمالية أو الغربية. فالحضارة العربية الإسلامية يغلب عليها الطابع النظري الفني من حيث إنها في أساسها وجوهرها حضارة لغة وأدب، وحضارة فقه وتوحيد. ولذلك كانت الحضارة الإسلامية ضعيفة تكنولوجياً وعسكرياً، وهو الضعف الذي لم يمكنها في الأخير من الصمود أمام زحف الحضارة الرأسمالية. الأهم من ذلك هو أن الحضارة الإسلامية كانت ضعيفة من الناحية العلمية. وهذا كان أمراً طبيعياً، لأنه يعكس طبيعة المرحلة التاريخية للإنسانية في تطورها آنذاك. من هنا كان منطق الفكر الديني، وهو المنطق السائد في العالم آنذاك، في حالة تنافس واضح وقوي مع المنطق العلمي في الحضارة الإسلامية. يتضح ذلك بشكل جلي في التراث الفكري الذي تركته لنا الحضارة الإسلامية، سواء في ذلك التراث الفقهي، أو التاريخي أو الأدبي، أو الفلسفي. في هذا التراث نجد الكثير من التداخل بين المنطق الفلسفي والمنطق الديني، والمنطق العلمي والمنطق الديني. وأبرز المؤشرات على علاقة التنافس والشد هذه هو ما يعرف في التراث العربي من مفاهيم تأخذ شكل الثنائية والانقسام، مثل quot;العقل والنقلquot;، وquot;النص والرأيquot;، وquot;الاتباع والابتداعquot;، وquot;أهل الحديث وأهل الرأيquot;... الخ. وقد انتهى هذا التنافس، خاصة مع دخول العالم العربي مرحلة الانحطاط، بانتصار منطق الفكر الديني، وهيمنته على مناحي الحياة في المجتمعات والدول العربية التي ورثت هذه الحضارة.

في المقابل تتسم الحضارة الرأسمالية بشمولية حضارية لم تعرفها الحضارات التي سبقتها، بما فيها الحضارة العربية الإسلامية. فهي إلى جانب أنها حضارة الفن والأدب والموسيقى، هي أيضاً حضارة العلم والتكنولوجيا، وحضارة القانون والنماذج السياسية والإدارية المتقدمة، وحضارة القوة العسكرية التدميرية. حضارة الإنتاج، المادي واللامادي، الضخم والمتواصل، وأيضاً حضارة الاستهلاك. وإذا كان الدين هو أول وأهم مرتكزات الحضارة الإسلامية، فإن أول وآخر مرتكزات الحضارة الرأسمالية، والذي تستند إليه قبل غيره هو مبدأ العقل، والمنهج العقلاني. ولهذا السبب تميزت الرأسمالية بأن المنطق العلمي هو المنطق السائد فيها، والمنطق الحاكم فيها كحضارة. من هنا تبدو الحضارة الرأسمالية أنها حضارة التراكم اللانهائي للثروة، والتراكم اللانهائي للعلوم، وللاكتشافات والثورات العلمية. والسبب الأهم في ذلك هو أن الحضارة الرأسمالية أطلقت العنان للعقل الإنساني، وجعلت وظيفته الأساسية اكتشاف الطبيعة، وفك أسرارها في محاولة لمعرفة كنهها، والسيطرة عليها. والمقصود بالطبيعة هنا ليس فقط الطبيعة الفيزيائية، بل أيضاً الطبيعة الإنسانية، والطبيعة الاجتماعية.

اللافت أن بداية الحضارتين الإسلامية والرأسمالية كانت بداية دينية: ظهور الإسلام في الجزيرة العربية، وظهور حركة الإصلاح الديني في أوروبا الغربية. يخفي هذا التشابه الاختلاف الثالث بين الحضارتين الإسلامية والرأسمالية، وهو اختلاف مهم من حيث دلالته بالنسبة لموضوعنا. يتعلق هذا الاختلاف أيضاً بالبداية التاريخية لكل من الحضارتين. لا يمكن تناول ذلك بالتفصيل هنا، لكن تكفي الإشارة إلى أن ظهور الإسلام، باعتباره الشرارة الأولى للحضارة الإسلامية، حدث في إطار سياسي في مكة يفتقد إلى الدولة، وبالتالي جاء تأسيس الدولة، في المدينة، على يد الإسلام. ربما أنه بسبب ذلك اتسمت البداية السياسية للإسلام في مرحلة الخلافة الراشدة بشيء من الانفتاح، والحوار والمساواة، خاصة داخل الطبقة السياسية التي كانت تتهيأ لتولي المسؤولية بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. لم تدم هذه التجربة أكثر من ثلاثين سنة، على أكثر تقدير، لتأخذ الدولة بعد ذلك طبيعتها الاستبدادية مع الدولة الأموية. في المقابل كانت بداية الحضارة الغربية في العصور الوسطى داخل إطار راسخ لدولة اتسمت بالاستبداد الثيوقراطي. ومع أنها كانت بداية دينية، إلا أنها انتهت بفصل الدين عن الدولة. بعبارة أخرى، بقيت الدولة الإسلامية، وبعدها الحضارة الإسلامية، وفية لجذرها الديني- الإسلامي، ولأنها لم تواجه استبداداً يقف في وجهها، أخذت هي تستولد خاصيتها الاستبدادية. في المقابل كانت بداية الحضارة الرأسمالية ثورة على دولة وثقافة العصور الوسطى، وبالتالي ثورة على الدين والاستبداد اللذين قامت عليهما تلك الدولة. ولعله كان من الطبيعي أن تنتهي هذه المسيرة الحضارية إلى صيغتها الحالية، وما تتسم به من خصائص تتحيز إلى تحرير الفرد من عبودية الفكر الديني وعبودية الاستبداد السياسي quot;الحريةquot;، وإلى تبني مبدأ العقلانية باعتباره المبدأ الوحيد الذي يجب أن يحكم حياة الإنسان، ومن ذلك جاء quot;المنطق العلميquot; لينتظم هذه المسيرة. ماذا يقول كل ذلك عن العلاقة بين التخلف العلمي والاستبداد السياسي؟