أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي إحدى أهم منصات النقاش العام في دول الخليج العربي، تتقاطع فيها السياسة بالاجتماع والدين والثقافة، والرأي الفردي بالمزاج الجماعي المكتنز في أحايين كثيرة بنبرة قد تكون أحادية ومتعجلة! مع اتساع هذا الفضاء العام الذي ينشط فيه كثيرون من فئاتٍ ومستويات علمية مختلفة وتوجهات قد تتضارب في طرائق تفكيرها، برزت ظاهرة النقاشات الحادة التي تتجاوز الاختلاف الطبيعي لتلامس أحياناً حدود التوتر الاجتماعي - الهوياتي، ما يستدعي قراءة هادئة لأسبابها وكيفية التعامل معها، للتخفيف من آثارها السلبية على السلم الأهلي والوشائج التي تربط بين المجتمعات. أول مسببات هذا النقاش الحاد يتمثل في تسييس القضايا الإقليمية من دون فصل السياق الذي نشأت فيه. فالمنطقة المحيطة بالخليج العربي تعيش أزمات عميقة، وحين تُنقل هذه الملفات إلى النقاش المحلي بلغة عاطفية، يتم إسقاط صراعات غير خليجية على مجتمعات مستقرة، تختلف في سياقاتها وأولوياتها وانشغالاتها الحالية، عن المجتمعات المحيطة التي دخلت في صراعات دامية إثنية ومذهبية! هذا الإسقاط يُنتج استقطاباً لا يعكس الواقع الداخلي الخليجي الذي يجب أن تكون له الأولوية على ما عداه، لأنه هو الحصنُ الأول تجاه أي اضطرابات مقبلة من وراء الحدود. السبب الثاني، تحوّل المنصات الرقمية إلى مساحات لترسيخ الهويات الفرعية في صورتها الأكثر تطرفاً، والتي من خلالها يسعى أصحابها إلى فرض الرأي وترسيخ حقانيته، ورفض أي نقاش مع الآراء الأخرى التي قد يراها منافسة له أو تشكل تهديداً لهويته الذاتية، أو مناقضة لها! فبدلاً من مناقشة السياسات والمواقف وتحليلها بأناةٍ وفق المعلومات والمنهجية العلمية، يجري اختزال وجهات النظر في انتماء طائفي أو قبلي أو أيديولوجي. في هذا السياق، لا يُناقش الخطاب بقدر ما يُصنف صاحبه، ما يغلق باب الحوار ويعزز منطق "نحن" مقابل "هم"، ما يكرّس ثنائية صدامية تقود إلى التعصب حتى لو كان الرأي مجانباً للصواب! أما السبب الثالث، فيتعلق باقتصاديات هذه الشبكات الاجتماعية. فخوارزميات المنصات تكافئ الخطاب الحاد والمستفز لأنه يحقق انتشاراً أسرع، بينما يُهمش الطرح المتزن، لأنه أقل تفاعلاً، وبالتالي تبحث هذه المنصات عن الضجيج لأنه سيجلب مزيداً من النقرات، وبالتالي مزيداً من التسويق والمال! هذا الواقع يدفع بعض المستخدمين بوعي أو من دونه، إلى رفع سقف اللغة لتحقيق حضور وتأثير، حتى لو كان ذلك على حساب السلم الاجتماعي. إن ضبط هذا المشهد المتشنج لا يكون عبر المنع أو التضييق غير المدروس، أو الحد من حرية التعبير التي يجب أن تصان؛ بل عبر إدارة حصيفة للمجال العام الرقمي. على المستوى الحكومي، يبرز دور التنسيق الخليجي في مواجهة حملات التحريض والتضليل، وتحديث الأطر القانونية بما يوازن بين حرية الرأي وحماية السلم الأهلي، يضاف إلى ذلك تعزيز الشفافية وتقديم المعلومات الموثوقة. في المقابل، لا يقل دور المجتمع المدني أهمية. فالوعي العام هو خط الدفاع الأول ضد الانقسام. وعيٌ يميّز بين النقد المشروع والتحريض، ويدرك أن الاختلاف السياسي لا يبرر الانزلاق إلى لغة تحريضية. هذا الوعي لا يتشكل تلقائياً، بل يحتاج إلى ثقافة تراكمية وتعليم، ونماذج واعية تطرح الاختلاف بلغة هادئة وعقلانية. إن دول الخليج العربي اليوم تمثل النموذج الأكثر استقراراً وسط محيط مأزوم سياسياً واقتصادياً وأمنياً. الحفاظ على هذا النموذج الذي يمنح الأمل ويعمل على صناعة مستقبل مزدهر، يتطلب تعزيز التفاهمات الداخلية، وتحصين العلاقة بين المكوّنات المتنوعة، ومنع الفضاء الرقمي من التحول إلى ساحة صراعات عبثية لا طائل منها!