سيف الإسلام بن سعود بن عبد العزيز
كان العالم يتغير في قديم الأزمنة، إما عبر غزوات تُحتل فيها الأوطان ومن فيها من البشر، تعقبها اكتساحات تتغلب بعدها طبائع وثقافة وسلوكيات المحتل تعبيراً عن ضعف القابعين تحت جبروته وقوته؛ كان العالم يتغير كذلك عندما تُهاجر مجاميع بشرية ديارها وأماكن سكناها لأن كارثة طبيعية أو وباءً حلَّ بتلك الأصقاع، مما جعل حياة أصحاب عمرانها جحيماً لا يُطاق؛ وإن لم يحدث هذا وذاك فسُنة الله في الكون تقتضي انتهاء عمر حضارات وأمم واستبدالها بأقوام لا يربطهم بما مضى إلا الأساطير والتاريخ المحكي أو المكتوب.
في القرن العشرين وبالتحديد بدايةً من منتصفه وحتى يومنا هذا، بدأ مغيِّر غريب مثير عجائبيٌّ في تغيير العالم ضارباً بكل عوامل وأسباب التغير القديم ذاك الحائط المتشكل من أفكار ورؤى وسلوكيات الثقافات الإنسانية المختلفة.
..إنه الإعلام! صحافةً.. وإذاعةً.. وتلفازاً.. وشبكات عنكبوتية.. وتليفوناً محمولاً يربط بين من يعيش في البحار والقفار وقمم الجبال والغابات الاستوائية.
عبر تلك الوسائل التي لا يحشر البارود والرصاص في داخلها، ولا تنقلها بوارج عابرة للقارات، ولا حتى صواريخ بالستية. عبر تلك الأدوات الـمُعبرة عن الفتح العقلي الإنساني الذي لا يستخدم السيوف والخناجر والبنادق والمدافع الرشاشة والثقيلة، تغير العالم وأصبح قرية صغيرة جداً بحيث تعرف منكوبي حُكم العسكر في الأرجنتين على ما يقع على نظرائهم في ميانمار؛ والأفلام التي ترصد إبادة البيض للسكان الأصليين من الهنود الحمر في أميركا، شاهدها سكانٌ عمّروا طويلاً قبل أن يشارفوا على الانقراض في أستراليا. ودموع المنكوبين في فلسطين (كان) يتابعها من خلال التلفاز والصور الصحفية المظلومون من الأكثرية في جنوب أفريقيا. والحروب التي تفتك بالملايين ولا تعلم عنها بقية البشرية إلا صفحات التاريخ أو أفلاماً تسجيلية ذات حركة سريعة مضحكة غدت تُنقل حيةً على الهواء، تُرى من خلالها الدبابات الغازية وهي تنسف ادعاءات وزراء إعلام الديكتاتورية العسكرية بالنصر المزور الذي لن يقع، نقلت تلك الوسائل انهيار الأمة بعد الاحتلال: سرقة متاحفها.. وسيادة الرعاع.. وتفريغ البنوك المركزية.. وقتل الأخ لأخيه لأن مجسم الرصافي قرب بيته، ولأن الآخر يبيع الذرة تحت تمثال المتنبي!
عولمة وسائل الاتصال هي من أخبرتنا أن إعلامنا القديم كان يُبقينا في عزلة عن العالم وعن معرفة أنفسنا وقدرتنا، كان يزرع فينا آمال الانتصار والتقدم والخصوصية، بينما كل شيء في الداخل منكسر ومهزوم ومتأخر.. الأرواح والتفكير والثقة ذات الاتجاهين.
دموع سكان الإكوادور وهم يدفنون قتلاهم بعد الفيضان قالت لنا اللقطات التليفزيونية والصور الصحفية إنها مُحرقة وصادمة للقلوب، كما هي دموع الثكالى واليتامى والمفجوعين بعد مد بحري عظيم في شرق الأرض.
ألم تشاهد عزيزي القارئ كيف هي النظرات الزائغة لمن وقف على أشلاء أحبائه بعد تفجيرات قطارات إسبانيا أو بعد انهيار أبراج نيويورك؟ ألم تسترجع ذاكرتك نفس تلك النظرات المكروبة والرؤوس المرتفعة للسماء بحثاً عن إجابة بعد مقتل quot;بنيظير بوتوquot; أو quot;أنديرا غانديquot; وأبيها الروحي من قبل، شُوهد كل هذا من خلال الشاشات قبل سنوات ونتابعه الآن وستشاهده -للأسف- بعد أيام أو أسابيع على الأكثر؟!
لولا الإعلام ووسائل الاتصال لكنا أفضل الرياضيين في العالم و(دورينا) المحلي في أوطان العالم الثالث هو المتعة والإبهار الكاملان، لكن تلك التي تخترق الـحُجب والسماوات فجعتنا وهي تنقل لنا بالصورة الحية والبث المباشر تخلف من يقذفون الكرة تحت سمائنا الزرقاء، ومن يبتاعون كذلك تذاكر الدخول للملاعب (شبه) المزروعة ذات المدرجات الإسمنتية!
عرفنا من خلال وسائل الإعلام المختلفة سجون الشطر الشمالي من جزيرة كوبا، وعرفنا كذلك كلاب مدعي نشر الديمقراطية وهي تنهش ممن رموا المحتل بالمقذوفات بدلاً من الزهور والرياحين، وفي نفس الوقت عرفنا من خلال ذات الأدوات الاتصالية نفسها مقدار وحجم وتقدم سجوننا (الإسلامية)، وكيف يُعامل أحفاد ورعايا خليفة قال يوماً قبل ألف وأربعمائة عام وفي مسجد من طين: quot;متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟quot;.
أصر العالم الذي ولدت في منازله ومن أرحامه وسائل الإعلام والاتصال أن تتضمن رسائله كمية كبيرة من الترفيه، إلى جانب كم عظيم من المعرفة والثقافة والاكتشاف، أما نحن وقد استوردنا البشر والتكنولوجيا ومعها قوائم طعام الشرق والغرب والشمال والجنوب، فلم نحشُ ساعات البث الفضائي من نهري (السات) إلا بكل فن هابط وعري مقزز وكلام مبتذل، وإن لم يكن هذا وذاك فرسائل فضائية لصاحب شفرات الإرهاب المختبئ في وزيرستان.
الإعلام بوسائله أسقط جدران برلين وهدم المنظومة الشيوعية، وأزال حكم الدبابات في أميركا الجنوبية والوسطى، ودفع للحكم أصحاب البشرة السوداء الذين كانوا يُمنعون من التواجد مع الكلاب على أرض آبائهم وأجدادهم التي احتلها الأبيض القادم من شمال بعيد. الإعلام الذي غير العالم استحضر بنقرة فأرة حاسوب، ما يقع على هذه الأرض طباً وأدباً وفناً وعِلماً، بكل ثقة نقول: لم تتبدل هذه الأرض وتأخذ زخرف سنوات سلامها وحكمتها ومعرفتها إلا عندما أُنزلت رسالات السماء التي شوهها الإنسان سريعاً، وبعد ذلك جاءت معجزات الثورة الصناعية وعصر الاكتشافات؛ لكن التغير الأكبر حدث عندما حضر الكون كله بشرِّه وخيره، وحزنه وفرحه، وأمله وتشاؤمه، وتحضره وجهله، على شاشة فضية مسطحة عرضها بوصات قليلة وعمق تأثيرها.. لا يُحصى.
التعليقات