خيري منصور

سيظل معتقل جوانتانامو إلى أمد طويل نُدبة في جبين الولايات المتحدة، إنه القلعة التي وصفها كافكا بشكل كابوسي، وثمة من أدخلوا عنوة إلى زنازينها ولا يعرفون حتى الآن لماذا هم هناك.

لقد تحول الزفير الانساني الساخن من ثقوب تلك القلعة إلى قصائد ممهورة بأقصى وأقسى ما عرف الانسان من أشواق إلى الحرية، لأن واحدة من فضائل الأسر والسجن إن كان لهما فضائل هي إعادة اكتشاف الحرية تماماً كما يكتشف المختنق والمحروم من الأوكسجين نعمة الهواء إذا قُيّض له الانعتاق.

والاحتجاج شبه الكوني على جوانتانامو في هذه الأيام ليس الأول من نوعه، فمنذ الاعتقال الأول كان هناك استنكار واسع لمثل هذا العَسْف الذي يفتح الذاكرة على أجواء ومناخات، ظن البشر أنهم ودعوها إلى الأبد وكسروا وراء سجانيها المتقاعدين جراراً من الفخّار.

احدى مفارقات عصرنا وهي عديدة، هو هذا الامتزاج بين النقائض، فالكلام الذي لا ينقطع عن الحريات والشفافية تقترن به أفعال هي في حقيقتها جرائم ضد الإنسان، ما دامت الميكافيلية قد بعثت من خلال طبعتها الأمريكية على هذا النحو الذي دفعها إلى أبعد حدود الذرائعية.

ويبدو أن موسوعة العلوم المتطورة التي نهل منها سجانو عصرنا أدبياتهم في القصاص قد استخدمت على نحو مضاد لجوهرها.

فمن الناحيتين السياكولوجية والسوسيولوجية لا يمكن لإمبراطورية مهما زعمت من الوصاية على هذا الكوكب أن تنتج العدالة من خلال فائض العدوان والظلم، والعكس هو الأصح، لأن فائض الثروة هو ما أنتج فائض الفقر مثلما أنتج فائض التقدم التكنولوجي كل هذا التخلف الذي يحاصر مليارات البشر في عالمنا، ولا يعادل ظاهرة جوانتانامو بكل دلالاتها السلبية والانتهاكية إلا الاحصائية التي نشرت مؤخراً عن التسعين في المائة من الذين يموتون في هذا العالم بسبب الفقر وما يتفرع عنه من حرمان وشقاء ومتطلبات إنسانية لا تجد الحد الأدنى من الإشباع.

كلاهما إذن، الفقر والعبودية أطلقتهما فوهة واحدة، ولا رجاء على الاطلاق لتحقيق أي سلام أو أمن أو استقرار في هذا الكوكب المتفجر إلا بإعادة النظر في جملة الأساليب المتبعة في العقاب والثواب على السواء.

في روايات كافكا الكابوسية يقاد الأسرى أو المقبوض عليهم إلى غياهب القلاع المظلمة وهم لا يعرفون السبب، لهذا يتواصل احساسهم الغامض بالظلم، ومثل هذه المشاعر تتسرب عبر الصفحات إلى القارئ.

لقد ذهب كافكا لكن عوالمه لم تغب معه، وللمصادفة ذات المغزى، فإن أحد ورثته وهو الكاتب التشكيي كونديرا أكمل المشوار وانتهى إلى عبارة مشحونة بالأسى والنذير، وهي أن الإنسان في أيامنا متهم إلى أين يبرهن على براءته، وإن هناك عقاباً جاهزاً يبحث عن جريمة وليس العكس.

إن جوانتانامو التي حولت الأسرى إلى شعراء هي رواية تبحث عن مؤلف حصيف، لا يرتهن للميديا السائدة التي تحاول ادخال فيلة العالم وثيرانها كلها من ثقب إبرة.

فليس من المعقول أن يمكث عدد من البشر في ذلك الجحيم من دون أن يعلم بعضهم ما الذي اقترفه.

وقد تصدق الوعود وتنتهي هذه القلعة الكافكاوية السوداء هذا العام، لكنها سوف تبقى كالندبة أو الوشم على جلد امبراطورية قتلت الملايين من أجل تحريرهم، ودمرت بلداناً من أجل إغاثتها.

إن المنطق كله وليس الإنسان فقط أصبح في خطر، فما يحدث الآن هو وضع الانسان أمام الدبابة وليس العربة أمام الحصان.