عبد المنعم سعيد

لا أدري شخصيا ما هو السر في ذلك الموقف الذي يتخذه الأستاذ محمد حسنين هيكل من الرئيس السادات الذي يجعله يجانب الحقيقة في تناول استراتيجيته الخاصة بحرب أكتوبرrlm;1973rlm; بإصرار عجيبrlm;.rlm; ولا يمكن تفسير ذلك أبدا بموقف شخصي يعود إلي ما فعله الرئيس السادات قبل اغتياله بحبس الأستاذ هيكل لمعرفتي الشخصية بالأستاذ أنه ليس من هؤلاء الذين يسلمون النفس لعواطف الانتقامrlm;,rlm; وكان الحبس من الأخطاء التي لا تغتفر للراحل العظيم في كل الأحوالrlm;.rlm; لكن هيكل كانrlm;,rlm; ولايزالrlm;,rlm; من هؤلاء الذين يعرفون قيمة التاريخrlm;,rlm; كما يعرفون قيمة الوطنrlm;,rlm; ومع هذا وذاك يعرفون قيمة المعرفةrlm;,rlm; ومن ثم فإنه لن يستخدم أبدا قدراته التحليلية الفذة في تضليل قطاعات من الشعب المصري تعتبر كتاباته من الأناجيل المقدسةrlm;.rlm;

كما لا يمكن تفسير موقف الأستاذ هيكل بأن معرفته بالتحليل الاستراتيجي محدودة لأنه من أكثر المصريينrlm;,rlm; بل من أكثر العربrlm;,rlm; الذين يعرفون أصول التحليل الاستراتيجي كما عرفتها أفضل المدارس والدراساتrlm;.rlm;

ومع ذلك فإن الأستاذ هيكل في تقديمه المنشور في صحيفة المصري اليوم لمقالاته الستة التي كتبها للرئيس حسني مبارك عمد مرة أخري للعودة لقصة حرب أكتوبر وما جري فيها وقرارات الرئيس السادات التي اتخذها إبان هذه الحربrlm;,rlm; وهو ما كان قد فعله تماما في مقالاته الأخيرةrlm;(rlm; قبل الوداعrlm;)rlm; عندما استأذن في الانصراف من الساحة الإعلاميةrlm;,rlm; كما كان قد فعله من قبل عدة مرات وفي مناسبات ومطبوعات شتيrlm;.rlm; وفي كل مرة من هذه المرات كان الأستاذ هيكل يردد المعلومات نفسهاrlm;,rlm; والمنطق نفسه ودون أن يجرب مرة واحدة المراجعة مع ما بات معروفا من حقائقrlm;,rlm; وما كان متوافرا من تحليلاتrlm;.rlm; وبشكل ماrlm;,rlm; وأرجو أن أكون مخطئا تماماrlm;,rlm; بدا لي أن الأستاذ القدير مصمم علي تجريح الرئيس الراحل وهو الذي قدم لمصر أعظم إنجازاتها في تاريخها الحديثrlm;,rlm; ولولا ما فعل لكانت مصر قد أصبحت مثل أشقاء عرب كانت لهم استراتيجية مغايرةrlm;,rlm; وأظنها أقرب إلي اختيارات الأستاذrlm;,rlm; فإذا بها تعني استمرار الاحتلالrlm;,rlm; واستمرار المهانة القوميةrlm;.rlm;

وحتي لا يكون الكلام مرسلا فربما يكون ضروريا أن نبدأ الحكاية من أولهاrlm;,rlm; لأن هناك إصرارا من الأستاذ هيكل علي أن يبدأ حكاية الرئيس السادات من أول اتصاله بكيسنجر في يوم السابع من أكتوبرrlm;,rlm; وإخباره بأن مصر لا تسعي إلي توسيع أو تعميق جبهة القتالrlm;,rlm; وهو ما رآه الأستاذ هيكل نوعا من التفريط الاستراتيجي علي أحسن الفروضrlm;.rlm;

وفي مقال الأستاذ هيكل الأخير فإنه يقول إنه عرف بسر الاتصالات الخفية في أثناء رحلة إلي واشنطن عامrlm;1975,rlm; وأذاعها في حديث مع جريدة الأهالي عامrlm;1983rlm; قبل أن ينشرها كيسنجر في كتابه سنوات القلاقلrlm;.rlm;

والحقيقةrlm;,rlm; وطبقا لرواية الأستاذ أمين هويديrlm;,rlm; هي أن الاتصالات المصرية ـ الأمريكيةrlm;,rlm; والقناة بين المخابرات المصرية والولايات المتحدةrlm;,rlm; لم تبدأ مع الرئيس الساداتrlm;,rlm; لكنها بدأت مع الرئيس جمال عبدالناصر في عامrlm;1968,rlm; وكان ذلك طبيعيا من دولة تريد أن تفتح القنوات مع كل القوي العظمي لخدمة أهدافها القومية التي تتضمن تحرير أراضيها المحتلة بالدبلوماسية أو بقوة السلاحrlm;.rlm; وفضلا عن ذلك أن هنري كيسنجر قد ذكر بالتفصيلrlm;,rlm; وبالنصوصrlm;,rlm; ما تم تبادله بينه وبين حافظ إسماعيل مستشار الأمن القومي والمعبر عن الرئيس الساداتrlm;,rlm; في كتابه سنوات القلاقل الذي نشر في مارسrlm;1982,rlm; أي قبل عام كامل من قيام الأستاذ هيكل بإذاعة أنباء هذه الاتصالات في صحيفة الأهاليrlm;.rlm;

والطريف في الأمر أن الأستاذ هيكل كان يستطيع أن يوفر علي نفسه كثيرا من الجهدrlm;,rlm; وعلي قرائه كثيرا من العبءrlm;,rlm; إذا قرأ أيضا تعليقات كيسنجر نفسه علي هذه الاتصالاتrlm;,rlm; بل ومدي تقديره للأفق الاستراتيجي للرئيس الساداتrlm;,rlm; لكن للأسف ولسبب غير معلوم فإن الأستاذ هيكل لم يحدث أبداrlm;,rlm; وعلي سبيل العرض الأمين لجميع وجهات النظر قبل الحكم في القضيةrlm;,rlm; أن قدم لقرائه وجهة نظر كيسنجر فيما جري معه من اتصالاتrlm;.rlm;

علي أي الأحوال فإن التفسير الأخير للأستاذ هيكل بالنسبة لاتصالات الساداتrlm;,rlm; وأهمها إذاعته لسر أنه لا ينوي تطوير أو تعميق الهجومrlm;,rlm; قام علي أنه خلط بين رهان الحربrlm;,rlm; ورهان السلامrlm;,rlm; وأنه بهذا العمل أعطي للولايات المتحدةrlm;,rlm; ومعها إسرائيلrlm;,rlm; القدرة علي استعادة زمام المبادأةrlm;,rlm; وقسم الجبهتين المصرية والسوريةrlm;,rlm; وأعطي واشنطن القدرة علي استغلال الموقف باستعمال الرهان المصري المنفردrlm;,rlm; لكن قراءة ما جري سوف تختلف تماما إذا ما تم وضعها في إطار آخرrlm;,rlm; وهو أن الرئيس السادات كان له رهان واحد من البدايةrlm;,rlm; وهو رهان السلام واستعادة الأراضي المصرية المحتلةrlm;,rlm; ومعها وضع إطارا لتحرير بقية الأراضي العربيةrlm;,rlm; وكل ذلك مقدمة لتنمية مصر التي عصرتها سنوات الثورة والاحتلالrlm;.rlm;

وضمن هذا الرهانrlm;,rlm; إذا جاز التعبيرrlm;,rlm; فإن الرئيس السادات كان يعرف أنه يدير حربا محدودةrlm;,rlm; حيث تدار المعارك لتحقيق أهداف عسكرية محدودة تنطلق بعد ذلك لتحقيق أهداف سياسية كبري في ظل توازن القوي القائمrlm;,rlm; الذي كان معلوما لجميع الأطراف أنه كان لمصلحة إسرائيلrlm;,rlm; خاصة فيما يتعلق ليس فقط بالسلاح النوويrlm;,rlm; وإنما أيضا بالقدرة الفائقة علي الوصول للأعماق المصرية نتيجة التفوق الجويrlm;,rlm; وضمن هذا الإطار يمكن فهم قصد الرئيس السادات من العبارة التي أرسلها لكيسنجرrlm;,rlm; وهي أن الرئيس كان أولا يريد كسب الوقت لعملية العبور قبل قيام واشنطن بردها العنيفrlm;,rlm; وبالفعل فإنه كسب أسبوعا كاملا قبل أن تبدأ الولايات المتحدة جسرها الجوي الشاملrlm;,rlm; وثانيا كان يريد الحفاظ علي العمق المصري وليس العمق الإسرائيليrlm;,rlm; لأن الرئيس السادات لم يكن يريد للحرب أن تنتهي والجبهة المدنية المصرية مدمرةrlm;,rlm; وبالتأكيدrlm;,rlm; ثالثاrlm;,rlm; فإنه لم يرد للحرب أن تنتهي وهناك تدمير متبادل للجبهات المدنية توجد وسطها نزعات للتطرف تجعل التوصل إلي اتفاق سلام مستحيلاrlm;.rlm; وباختصار كان الرئيس السادات يضع قواعد اللعبةrlm;,rlm; وكان ذلك هو ما فهمه كيسنجر وقدرهrlm;,rlm; ولعب المباراة علي أساسهrlm;,rlm; وكانت النتيجة سلسلة من الانسحابات الإسرائيلية علي النحو المعروفrlm;.rlm;

وعلي أي الأحوال فإن كلمة الرئيس السادات في يوم السابع من أكتوبر لم تكن هي الكلمة الأخيرةrlm;,rlm; لأنهrlm;,rlm; وعلي خلاف موقف رئيس الأركان سعد الدين الشاذليrlm;,rlm; أمر بالفعل بعد ذلك بتطوير الهجوم صباح يومrlm;14rlm; أكتوبر في اتجاه المضايقrlm;,rlm; حتي إن كيسنجر شعر أن ذلك كان الخداع الثاني للرئيس السادات بعد خداعه الأول بشن الحربrlm;,rlm; ومعني ذلك أن كلمة السادات لكيسنجر لم تزد في واقعها علي ملاءمتها لمقتضي الحال والقدرات المتوافرةrlm;,rlm; لأن قيادة الأركان كانت مصممة علي أن تبقي القوات المصرية المهاجمة في إطار حائط الصواريخ المصريrlm;,rlm; وأن تشكل مطحنة دفاعية للهجوم المضاد الإسرائيليrlm;,rlm; وهو ما حدث بالفعل في الأيام الثلاثة التاليةrlm;,rlm; حيث تكبدت إسرائيل خسائر فادحة في المدرعاتrlm;,rlm; والطائراتrlm;,rlm; وهو ما ينفي تماما أن مصر تركت سوريا وحدها في ميدان القتالrlm;.rlm;

والحقيقة تشهد أن سوريا كانت هي التي طلبت وقف إطلاق النار بعد ساعات قليلة من بدء الحربrlm;,rlm; وقبل أن ينتهي يومrlm;7rlm; أكتوبر كان الهجوم السوري قد توقف وبدأ في الارتدادrlm;,rlm; بل إنه قبل أن ينتهي مساء يومrlm;8rlm; أكتوبر كانت القوات الإسرائيلية قد دفعت القوات السورية إلي ما وراء الخطوط التي بدأت منهاrlm;.rlm;

لم يكن الرئيس السادات إذن هو الذي بدأ البحث عن حل منفردrlm;,rlm; بل إنه في الحقيقة خالف نصائح الفريق سعد الشاذليrlm;,rlm; كما جاء في كتابه عبور السويسrlm;,rlm; من إبقاء القوات المصرية في نطاق حائط الصواريخrlm;,rlm; وكانت النتيجة المحزنة هي أن تطوير الهجوم كان المقدمة الطبيعية للثغرةrlm;,rlm; ولم يكن هناك سبب لهذه المخالفة إلا محاولة إنقاذ سوريا من الضغط الواقع عليهاrlm;.rlm; وفي كل الأحوال فإن حركة السادات كانت جزءا من عملية رهان علي تشكيل البيئة الاستراتيجية الدولية والإقليمية لكي تجعل اسرائيل علي استعداد للانسحاب الكامل من الأراضي المصرية المحتلةrlm;,rlm; وهي الحقيقة التي لم يجد الأستاذ هيكل أبدا هناك داعيا لذكرهاrlm;.rlm;

فقد كان الغرض من الحرب أن تشعر إسرائيل بأن هناك ثمنا فادحا لاستمرار احتلالهاrlm;,rlm; لكن ذلك كان جزءا من مشروع السلام الذي يعطي لإسرائيل خيارا آخرrlm;,rlm; إذا ما قامت بالانسحاب من الأراضي المحتلةrlm;,rlm; فما بات واضحا لإسرائيلrlm;,rlm; كما كان واضحا للولايات المتحدةrlm;,rlm; أن مصر لا تخوض الحرب من أجل الحربrlm;,rlm; وإنما تخوض الحرب من أجل استعادة أراضيهاrlm;,rlm; وتحقيق السلام لشعبها بعد طول انتظارrlm;.rlm;

وضمن هذا الإطار فإن المبالغة في قفش تصريح الرئيس السادات بأنrlm;99%rlm; من أوراق اللعبة في يد الولايات المتحدة لا يعبر عن حسن نية في التعامل مع التاريخrlm;,rlm; فالواضح من التصريح أن الرئيس السادات كان يريد تحميل الولايات المتحدة مسئولية كبريrlm;,rlm; وليس إعفاء مصر من تعبئة كل الأطراف الأخريrlm;,rlm; ولو كان الأستاذ هيكل عادلا في قراءة التصريحات لقرأ بالقدر نفسه تصريحات الرئيس جمال عبدالناصر التي هدد فيها الولايات المتحدة بشرب ماء البحرين الأحمر والأبيضrlm;,rlm; لكن الأستاذ هيكل لم يأخذ تصريحات عبدالناصر بالجدية نفسهاrlm;,rlm; لأنه كان يعلم أن التصريحات لها أحيانا وظائف تعبويةrlm;,rlm; أو رسائل دبلوماسية وفقط لا غيرrlm;..rlm; سامح الله الأستاذ هيكلrlm;!rlm;