خيري منصور

يقول تشومسكي في كتابه ldquo;طموحات امبرياليةrdquo; الذي ضم عدداً من الحوارات معه، إن تشرشل تحدث إلى ستالين في طهران عام 1943 قائلاً: ldquo;يجب أن تعهد الحكومة العالمية إلى أمم شبعانة لا ترغب لنفسها بأكثر مما لديها وما تملك، وإذا عهد بحكومة العالم إلى أمم جائعة فسيكون هناك خطر على الدوامrdquo;.. ويبدو أن مفهومي الشبع والجوع قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية كان مختلفاً عنه في أيامنا، وما تناساه السيد تشرشل هو أن الدول التي تتحكم بمصائر الشعوب وتتشكل منها حكومة العالم كما يقول لا تشبع على الإطلاق، بل يسيل لعابها كلما شمت المزيد من الدم، كأسماك القرش أو الضباع.

ما هدف إليه تشرشل في تلك الأيام هو شعور الأغنياء والأقوياء بالأمن على ما يملكون وهذا ما لم يتحقق ولن يتحقق حتى لو وجدت هناك هيئات تعطي بوليصات تأمين.

لقد ورثت واشنطن نفوذ لندن بعد تلك الحرب، وتحولت بريطانيا العظمى إلى دولة ترتعش من الصقيع بعد أن غربت شمسها، لكن منطق الجوع والشبع لم يتغير، فالولايات المتحدة ليست جائعة بل تعاني من تخمة تهدد مفاصلها بالعطب وهي في حروبها الاستباقية وذات الاسماء العديدة المضللة تريد أن تحصد الغنائم كلها من دون أن تسدد فاتورة الدم، لكن التاريخ لا يعبأ بمثل هذه الرغائب حتى لو صدرت عن امبراطورية من فولاذ، لهذا قتل آلاف الأمريكيين في هضاب آسيا ووديانها وأهوارها، وثمة رسائل تنشرها الصحف الأمريكية لجنود أحياء مدرجين على قائمة القتلى تجزم بأن الخديعة انتهت صلاحيتها، وكل ما تم تصنيعه وتلفيقه من مبررات ذلك الموت أصبح بلا مفعول، فقد انتهت آثار الجرعة المخدرة، وما يجري الآن هو تحويل العسكرتارية إلى نمط إنتاج وفق موروث اسبارطي بائس.

إن الشبع بالمعنى الذي أراده تشرشل سوف يبقى خارج هذه المعادلة الكونية، ولا أدري لماذا ذكرني ما نسبه تشومسكي إلى تشرشل بالأسلوب الذي يتم به تعليم الكلاب السباق، حيث يربط الكلب إلى ذراع من مروحة سريعة الدوران وتربط قطعة اللحم أو العظم بذراع أخرى، والمسافة بين الذراعين ثابتة لهذا فإن الكلب يعدو وقطعة اللحم تعدو واللعاب متواصل.

لقد كانت الحقب الكولونيالية كلها شبيهة بهذا التسابق رغم أن كلابها ليست جائعة لكنها ما أن تشم رائحة اللحم البشري حتى تصاب بالسعار، لهذا فإن حلم من يستبد بهذا الكوكب ويحول ساكنيه إلى أسرى ومعتقلين خصوصاً في القارات الأسوأ حظاً لن يتحقق، وما من جهة يمكن لها أن تتعهد بمنح بوليصات تأمين أو حتى تطمينات لمن تئن لحوم الضحايا في أحشائهم.

كيف نصدق أن العالم لايزال يعاني من ثنائيات الجوع والتخمة والحرية والاستعباد بعد كل هذه الألفيات المترعة بالفكر والفن والعقائد، والنحت في الصخر من أجل جعل الإقامة ممكنة على سطح الأرض؟ نعرف أن اليوتوبيات أو المدن الفاضلة التي حلم بها مصلحون وفلاسفة تحولت إلى مدن راذلة أو ديستوبيات، لكن الإنسان لا سبيل أمامه إلا أن يحلم، وإذا تأقلم مع شروطه فإن التاريخ عندئذ سيكون قد لفظ آخر أنفاسه.