احمد جابر

يكمل السجال السياسي اللبناني رسم دوائره المغلقة، ويتابع السير على خطوط الانقسامات الأهلية. لقد صار متعذراً الجلوس الطويل، على مقاعد مواضيع الخلاف الفعلية، مثلما بات صعباً المكوث في laquo;ديارraquo; تفسيراتها الحقيقية، وتعليلاتها الواضحة... صار التمويه على الأهداف سياسة، وبات التراشق بالحجج، من خارج السياق، ممارسة يومية. في مواجهة تكرار الهروب من الوقوف أمام نقاط الخلاف الأصلية يظل مطلوباً، تكرار الإدلاء بعناوين الخلاف هذه، لأن الحلول لن تبصر النور، إذا لم تكن الخلافات العارية ممدّدة أمام الأبصار، مما يضع حداً لسياسة التعامي، والتجاهل والمداورة، التي تقود الأزمة الوطنية الحالية. إلى العناوين الصاخبة المتداولة لبنانياً، أضيف مؤخراً عنوان التقرير الإسرائيلي، المسمى laquo;فينوغرادraquo;، والمتضمن الرؤية الإسرائيلية الخاصة لحرب laquo;الدولة العبريةraquo; ضد لبنان في تموز من العام .2006 استكمل صدور التقرير المذكور سجال الانقسامات حول العدوان، وأعطى زخماً للافتراق حول زوايا النظر إلى نتائجه. مجدداً، تعود الأسئلة إلى بساط البحث، وتكراراً تتجدد الدعوة إلى نقاش المواضيع، وعدم الاكتفاء بمعالجة تداعياتها، أو ما يتناسل منها على هيئة laquo;مباحث فرعيةraquo;... على هذا الصعيد الاستفهامي، لا بأس من طرح السؤال الآتي: ما الذي كان ينتظره اللبنانيون من التقرير الإسرائيلي؟ وبصيغة أخرى: ما الذي كان مجهولاً لديهم ليكفيهم laquo;فينوغرادraquo; مغبة جهله؟ وإلى السؤال الأول، لا بد من سؤال استكمالي آخر هو: أين يقع الافتراق الحقيقي، حيال العدوان ونتائجه؟ وبالتالي، هل للسياسة المترتبة على تحديد الافتراق، وتعيينه مسوغات فعلية؟ أم أن أرضية هذه السياسة مختلقة ومفتعلة؟
في الإجابة عن السؤال الأول، يمكن الجزم أن نتائج laquo;التقرير الإسرائيليraquo; كانت معروفة لدى فرقاء السياسة، اللبنانيين، بمعنى آخر أنهم كانوا متفقين على الحيثيات التي ستوصل إليها... في طليعة هذه الحيثيات، معرفة اللبنانيين، جميعاً، وبلا لبس أو إبهام، أن إسرائيل فشلت في حربها ضد بلدهم، وأن مقاومة اللبنانيين، laquo;ومجتمعهمraquo; نجحا في تخريب خطة العدوان، وفي احتواء مفاعيلها الداخلية... لا يقلل من جوهر هذه النتيجة تداول مفردتي laquo;نصر وهزيمةraquo;، أو مصطلحي laquo;نجاح وفشلraquo;، بل المهم، هو اتفاق اللبنانيين على مضمون laquo;الفوزraquo; الذي نالوه، مما لا يستطيع إنكاره (الاتفاق) إلا من كان ذا غرض سياسي، يجد في الخلاف حول ما هو laquo;شبه بديهيraquo; ممراً للوصول إلى بعض من أهدافه المضمرة.
القول باتفاق اللبنانيين حول نتيجة صمودهم، في وجه الهجمة الإسرائيلية، يذهب بالقائل إلى طرح السؤال حول نقاط الافتراق من الحدث ذاته، ومجرياته ونتائجه... ومن كل المسار الذي أطلقه في التحولات اللبنانية. تحت عنوان الخطأ في تصنيف اللبنانيين، والخطأ في تعيين نقاط افتراقهم يمكن تعداد النقاط الآتية:
أولاً:خطأ القول بأن الانقسام السياسي حاصل حول الموقف من العداء لإسرائيل، وبالتالي أن طيفاً لبنانياً، بعينه يستقوي بها في صراعه الداخلي.
ثانياً:خطأ الجهر، بأن الخلاف ناشب بين من يريد الاستمرار مشدوداً إلى حلبة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وبين من يسعى إلى إدارة الظهر لها، والنجاة من أعبائها، بوهم القدرة على الانعزال عنها.
على الوجه الآخر، لمعادلة الصحيح والخاطئ، يمكن أن ندرج تحت عنوان الصحيح من هواجس اللبنانيين، والحقيقي من خلافاتهم، النقاط الآتية:
أولاً: صحيح القول، إن ثمة ميولاً ما زالت كامنة في مناطق laquo;فكرية لبنانيةraquo; تود الانكفاء إلى laquo;لبنانيتهاraquo;، بديلاً من فتح هذه اللبنانية على العروبة، وهمومها وشجونها... وبالتالي لا بد من مساجلة هذه الميول، وفرض الانكفاء السياسي والواقعي عليها، لأن ازدهارها ذات يوم، جلب خراباً يعرفه اللبنانيون، ويعيشون بعضاً من تداعياته ... حتى اليوم.
ثانياً: صحيح الاعتراض على مبدأ الاستقواء بقضية وطنية عامة، لفرض أرجحية طائفية، لا تحتملها التشكيلة الطوائفية اللبنانية، وتكون بالتالي، ممراً إلى مفاقمة النزاعات.
ثالثاً: صحيح الاعتراض على توظيف الوضعية اللبنانية، واستعمالها من قبل اللاعبين الدوليين والإقليميين كورقة تبادل في سوق المساومات والمراهنات، وإعادة الاعتبار إلى نقاش laquo;استقلالraquo; البلد في نقاش قضاياه، وبتحديد ما يستطيعه فعلاً، من إضافات إلى قضايا laquo;أشقائهraquo; المحقة والعادلة، من موقع زيادة الوزن الخاص به، وليس من بوابة الإطاحة بهذا الوزن، أو حتى بالالتفاف عليه ومصادرته.
رابعاً: صحيح إبداء الهواجس حول مصير حملة السلاح، من المقاومين، والاطمئنان إلى عدم الانقلاب عليهم ومطاردتهم... بعد أي اتفاق وطني عام... وبالتالي، نقاش الضمانات المطلوبة التي تأخذ في الاعتبار موقع هذه الفئة الأهلية، وما تمثله سياسياً واجتماعياً، في مجمل ممرات بنية الحكم الرسمية والمؤسساتية.
خامساً: صحيح رفض الاستئثار بالحكم، على رافعة جريمة مدوية (اغتيال رفيق الحريري)، ورفض عقلية الاستقواء بالواقعة هذه، للاستقواء على الداخل، والإخلال بتوازناته وفرض هيمنة عليه، في معرض رفض الانقلاب على الوضع، من قبل فرقاء آخرين، ينسب إليهم السعي للوصول إلى الهيمنة ذاتها.
في هذه المناسبة، وفي مقام الاسترجاع، يفيد التذكير مجدداً، بواقعتين: تحرير الجنوب اللبناني، في العام ,2000 بواسطة المقاومة الإسلامية، واغتيال الحريري في العام ,2005 بواسطة مجهولين... الواقعتان مناسبتان ـ فرصتان للتوحد، أضاعهما فريقا السجال اليوم، اللذان ما زالا يرددان، وكل على طريقته: الأمر لي... وما زال كل منهما ينتظر الآخر، ليأتي صاغراً، وينزل على حكمه، ويقسم له يمين الولاء!!
في هذه الأثناء، باستطاعة laquo;الوطن أن ينتظرraquo; وللبنانيين حرية الاختيار، بين الهجرة، أو الانسحاب أو الموت قهراً وكمداً في ملاعب تتحرك فيها الطوائف بلا رقيب سياسي عام أو كوابح اجتماعية معطلة!!