أحمد جابر

يتواتر الحديث عن مسعى عربي جديد، قد تطلقه الجامعة العربية. يأتي ذلك في ظل انكشاف الوضع اللبناني المتزايد، ما يضع علامة استفهام كبرى حول قدرة المشهد السياسي اللبناني المتنابذ، على حسن استقبال وفد ldquo;النجدة العربيةrdquo;.. في حال معاودة محاولته اللبنانية.

لا يقتصر تقليب صورة الوضع على فرعها اللبناني فقط، لان الصورة تضمّ أيضاً فرعاً عربياً، لا شكوك حول نواياه الطيبة، بل إن كل الظنون المشروعة، تدور حول إمكاناته الفعلية، التي تتيح له أن يكون ذا كلمة مسموعة ومؤثرة، في الواقع اللبناني المعقد والمضطرب. الأرجح، أن الوقائع اللبنانية، متصلة بنظيراتها العربية، تفصح عن عجزين: أحدهما كياني، يتعلق بالبنية اللبنانية، وثانيهما بنيوي على ارتباط وثيق بكل فكرة ldquo;العروبةrdquo; وتجلياتها السياسية والاجتماعية، وما انبثق عنها من مؤسسات وعهود ومواثيق. أهم ما في مفكرة العجز اللبناني، الفشل في ملامسة صياغة تسوية داخلية، تشكل الحد الأدنى المقبول من قبل مجموع الطوائفيات السياسية، التي تمسك اليوم بمفاصل الحياة السياسية اللبنانية. على هذا الصعيد، لم تعد بنود التسوية مبهمة، لكن المسالك إلى وثيقتها الواضحة، ما زالت محفوفة بالشروط السياسية المعقدة، المتبادلة.

عند الحديث عن التسوية اللبنانية المأمولة، نجد من الضروري التذكير بأن المسألة ليست جديدة، بل إن قضية التسوية مزمنة، وعمرها مرافق لعمر الكيان اللبناني، منذ لحظة إنشائه في العام 1920 وعند ولادة الاستقلال الأول في العام 1943... لم تقدم المحطات التي تلت أجوبة شافية عن أسئلة استقامة الحياة السياسية اللبنانية، بل إن الاهتزاز ldquo;المصيريrdquo; رافق كل فترات الخلاف، الذي نشب بين اللبنانيين.

لقد عجز اللبنانيون ldquo;تاريخياًrdquo;، وهم ما زالوا عاجزين عن اشتقاق لغة جامعة، تحشد الداخل والمجتمع حول مسألتين: أولاهما: حسم موقع لبنان في معادلة الصراع العربي-الصهيوني، أي توضيح مواقفه السياسية، وبتها في اتجاه ذي شقين: رفض مقولة: ldquo;لبنان الساحة المفتوحةrdquo; في إدارة الحصة اللبنانية من الصراع مع إسرائيل، ورفض مقولة الإنسحاب من هذا الصراع، تحت شعار تحييد لبنان، أو بدعوى أن ldquo;البلد قدم قسطه الاعلىrdquo;....وآن له أن ldquo;ينام على مجد ما قام به...rdquo; فترة واحدة، وإلى الأبد.

الإلحاح على بت هذه النقطة، يعود إلى حقيقة تعبيرها، بشقيها، عن مصالح أهلية داخلية، ترى في توثيق الارتباط ldquo;بالصراعrdquo; أو ldquo;الانكفاءrdquo; عنه، مصلحة خاصة في خضم اشتباك المحاصصات التي تظل موضع قسمة متجددة بين اللبنانيين، حسب مآل كل احتدام اجتماعي، وبحسب النتيجة النهائية لكل خلاف داخل لبنان، أو في محيطه القريب، والبعيد نسبياً.

المسألة الثانية التي تقتضي معالجة ناجعة، هي مسألة إدارة الاختلاف بين اللبنانيين، بحكم التجربة الخاصة، والمعروفة في لبنان، لا يبدو الأمر سهلاً أو بسيطاً. ذلك أن اللبنانيين قد أثبتوا، دائماً، قدرتهم على تحويل كل خلاف سياسي، إلى اختلاف ldquo;كيانيrdquo; يطرح السؤال فوراً حول ldquo;هوية البلدrdquo;، مثلما يعلن التساؤل ldquo;حولrdquo; حقيقة ldquo;نهائية مواطنية المواطنين، فبجرّة قلم، أو بصوت خطابي، وانطلاقاً من أي منبر أهلي، يتحول فريق لبناني بكامله، إلى ldquo;منفذrdquo; لمخططات الخارج، أو يسقط فريق آخر من الحسابات اللبنانية، فيصير ldquo;معادياًrdquo; لسيادة الوطن واستقلاله.. يفضي الأمران إلى سؤال واحد: هل يشكل العدد المحتشد، ضمن الحدود الجغرافية المسماة لبنان، مواطنين بالمعنى المعروف للكلمة؟ أم هم مجرد ساكنين، فوق رقعة واحدة، تحكمهم معاهدات يعاد النظر في صلاحيتها ومواءمتها كل ردح من الأعوام؟! الخروج من نفق الصراع ldquo;المصيريrdquo; حول كل مسألة خلافية، لا يكون إلاّ بالاتفاق على سبل الإدارة التوافقية، لكل شؤون الخلاف، بما يكفل تحويلها إلى أمور يومية عادية، تجد مسالكها العادية أيضاً، إلى النقاش الهادئ والمسؤول. لقد ضخمت المجريات السياسية، التي أعقبت اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والتي تلت حرب تموز في العام2006، خطب الخلاف، وعمقت أزمة الكلام السياسي، مما وضع عراقيل جديدة أمام إمكانية الوصول إلى تسوية لبنانية معقولة، ومقبولة.. أقله في المدى القريب المنظور.

بالعودة إلى ldquo;المساهمة العربيةrdquo;، ووفقاً لهذه اللوحة الداخلية، يصير السؤال مشروعاً عمّا يمكن أن يضيفه العرب، إيجاباً، إلى الواقع اللبناني المأزوم؟! شيء من الإضاءة على عناصر يقتضيها النجاح العربي في مسعاه لدى اللبنانيين. يطالعنا بداية، في هذا المجال، مدى الحضور العربي الوازن، دولياً، طالما أن ldquo;للإشتباك اللبنانيrdquo;بعده الدولي، مثلما يواجهنا مدى الانسجام ldquo;العربي البينيrdquo;، لأن، للاشتباك إياه امتداداته العربية. الانسجام مع الذات، والوزن لدى الآخرين، يترجمان على صعيد مادي ومعنوي، كقوة دفع وفرض، إذا اقتضى الأمر، في مجال التدخل المختار.. الذي هو لبنان في حالتنا المحددة، لا يصعب الاستنتاج أن ldquo;المحصلة العربيةrdquo; في بعديها الداخلي والخارجي، عاجزة، وأنها لا تستطيع تنفيذ برنامج عمل خاص قادر على إرسال رسائل ذات مغزى في الاتجاهين، بل لعل العكس هو السائد عربياً، أي أن الوضع العربي، عموماً، بات صندوقاً لتلقي الرسائل، وأن الدور العربي، بسبب وزنه المتضائل، بات لا يتجاوز كثيراً، دور ساعي البريد.

لا يستطيع اللبنانيون، بالطبع، إلاّ أن يستقبلوا كل ldquo;بارقة أملrdquo;، مع علمهم المسبق، أنها لن تنجح إذا كانت ريح ldquo;انكشافهم الداخليrdquo; قادرة على إطفائها، وإذا كانت ldquo;بلاغتهم الخطابيةrdquo; متمكنة دائماً من فن الاستعارة والتشبيه والكناية والتطويل.. بغض النظر عن أن هذا الفن يستقي مادته ldquo;الزلقةrdquo; من عمر الأوطان.