محمد سلمان العبودي
نحن ننتظر أن يحصل الشعب الأميركي على رئيس جديد لهم قبل نهاية هذا العام... وحيث إنه قرار أمة لها دستور قائم وثابت وواضح ونظام حكم هو أيضا لا يحتاج إلى تأويل، فبالتالي سيكون الرئيس الأميركي القادم جديدا مئة بالمئة والرئيس الحالي يعلم جيدا أنه مفارق البيت الأبيض وعرش أقوى دولة في العالم في غضون أشهر قليلة دون زعل.
بينما نحن ننتظر منذ شهر نوفمبر من العام الفائت رئيسا جديدا للبنان (مع أن عدد سكان لبنان لا يتجاوز الأربع ملايين نسمة فقط لا غير) دون بارقة أمل في حصولهم على رئيس جديد كباقي البشر ربما لمدة ألف سنة قادمة، إن لم يتنازل أحد الأطراف لمصلحة جمهورية لبنان.
بالطبع نحن لا توجد مقارنة بين الشعب الأميركي والشعب اللبناني من حيث عدد السكان ولا المساحة الجغرافية، ولا بين الدستور والنظام الأميركي ومثيله اللبناني. فكل شعب له خصوصيته، ولكن ما يؤسف له هو أن لا تضع الدساتير الموضوعة من قبل البشر أنفسهم حدا لاختلافاتهم ومشاكلهم القائمة. فعندما يتحول الدستور إلى عقبة أمام تطور أو استقرار أمة من الأمم أو يصبح سببا في صدامها الداخلي المستمر فإن هذا الدستور يصبح غير جدير بأن يطلق عليه دستورا.
وبالتالي لا نرى ما الذي يمنع من إعادة النظر في صياغة بعض بنوده من خلال الاحتكام إلى رأي الشعب الذي وضع لأجله ذلك الدستور ولكي يتماشى بالتالي مع التطور الطبيعي للبشرية وليكون في خدمة مواطني تلك البلد خاصة إذا كانت في وضع يشبه وضع لبنان، دولة تعيش على شفا الانهيار والتصادم بين لحظة وأخرى.
صحيح أن لبنان له وضعية خاصة وأن أي تغيير أو تعديل في بعض بنود دستوره قد يقع على حساب وضع طائفة من الطوائف، إلا أنه لا مفر من مواجهة الواقع والاعتراف بالتطور الطبيعي للأمم ووضع مصلحة ومصير الوطن بأكمله فوق مصلحة ومصير طائفة أو مصلحة فرد بذاته..
صدر الدستور اللبناني في عام 1926، وحدثت عليه عدة تعديلات، لكن لا ننسى أن الاستعمار الأجنبي هو الذي حدد الخطوط العريضة للسياسة اللبنانية، وحتى في مواد الدستور. ونحن نعلم بأنه لم تسلم دولة قط من شر الاستعمار الغربي في أي بقعة من بقاع العالم دون أن تتركها خرابا وصداما وحروبا لا تنتهي.
ولم ينتهي الاستعمار الغربي بخروج قواته من مستعمراته. فقد ظل الهاجس الاستعماري يتدخل إلى هذه اللحظة في كثير من الشؤون الداخلية في نظم كثير من الدول التي كانت في يوم من الأيام مستعمرات لها، ولم يشذ بالطبع الحال في لبنان.
وكما ذكرنا أيضا في مقالتنا السابقة بأن لبنان أصبح مع الزمن حلبة مصارعة لمصالح خارجية، فإنه لا توجد طائفة في لبنان إلا وهي مرتبطة بشكل أو بآخر بدول خارج إطار دولة وشعب لبنان. وبالتالي، فإن هذه الطوائف يصعب عليها النظر إلى لبنان بأنه بلد مستقل تماما، وأصبحت تتعامل مع الأزمات الداخلية من منظور المصلحة الطائفية والتعليمات الخارجية.
والتقسيم السياسي اللبناني القائم على النسبة المئوية بين الطوائف و بدلا من أن يضع الأمور في نصابها بشكل دستوري وعادل، ويحدد دور كل طائفة في بناء جدار لبنان، أصبح محط تساؤل من قبل هذه الطوائف. فلماذا لا يكون رئيس الجمهورية مرة مسلما؟
ولماذا لا يكون رئيس مجلس النواب مرة أخرى مسيحيا؟ ولماذا لا يكون رئيس الوزراء بالانتخاب درزيا؟ ولماذا لا يكون انتخاب رئيس الجمهورية نفسه بنفس نظام الانتخابات في فرنسا والولايات المتحدة الأميركية، مثلا؟
هي مسألة معقدة جدا، قائمة على عدة حسابات طائفية داخلية وخارجية. ولكنها في كل الأحوال ليست بأصعب من التنوع البشري والطائفي الذي نلقاه في مجتمع الولايات المتحدة الأميركية.
فالأميركيون من حاملي الجنسية الأميركية ليسوا كلهم بالضرورة من أصول أوروبية بريطانية. وليسوا كلهم مسيحيين. فعلاوة على الاختلافات العرقية واللونية والثقافية هناك أطياف من المعتقدات الدينية التي لن يقدر لها أن تقف في يوم من الأيام عائقا أمام انتخاب رئيس للولايات المتحدة الأميركية.
ولم نسمع في أي يوم من الأيام أن اقتتل الشعب الأميركي لأي غاية كانت ولأي سبب كان، واحتمل السود عنصرية البيض (دون اللجوء للسلاح أو إلى الخصام) إلى أن وصلوا أخيرا إلى فرض وجودهم ومنافستهم في الوصول إلى البيت الأبيض.
والسبب أن الشعب الأميركي برغم اختلافه (حتى هؤلاء المنتمين إلى أصول عربية ومسلمة) لم يرضوا بوصاية أو بتدخل أو بهيمنة خارجية وأجنبية على تقرير مصيرهم. ولو كان الأمر كذلك لكان من السهل إشعال الفتنة بين البيض والسود وبين المسيحيين والمسلمين واليهود وبين الكاثوليك والبروتستانت، ولأصبحت الولايات المتحدة الأميركية بالتالي في خبر كان منذ عقود طويلة.
نحن لا نحلم بلبنان مثالي، ولكن بلبنان قابل للتنازلات لحساب التوافق الداخلي. فمصير لبنان أهم من الطوائف برمتها، فبدون لبنان لن يوجد شعب لبناني.
قد نخسر طائفة ولكن لا نخسر لأجل طائفة دولة بأكملها. إن اللبنانيين لم يحصلوا على استقلالهم بتلك السهولة لكي يتخلوا عن استقلالهم بحماقة تصريح هنا وتصرف هناك، وأن الحقوق التي منحهم إياها الدستور والواجبات التي فرضها عليهم لم تفرق بين طائفة وأخرى، وإنما هي ممنوحة ومفروضة على الشعب بأكمله دون تمييز مذهبي أو عرقي.
إن المادة السابعة من الدستور اللبناني تنص على أن: laquo;كل اللبنانيين سواء لدى القانون وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحملون الفرائض والواجبات العامة دونما فرق بينهمraquo;.
فإذا ما اختل هذا التوازن بين الحقوق والواجبات (وهي مصطلحات عامة جامعة شاملة) وتغلبت المصلحة الشخصية على المصلحة العامة فقد ذهبت كل المصالح إلى ما لا تحمد عقباها. وهكذا، لن يحصل اللبنانيون ليس فقط على رئيس لهم بل لن يحصلوا حتى على لبنان نفسه.
فمتى سوف يعلن اللبنانيون ثلاثة أيام حدادا على وفاة خلافاتهم ودفنها في مقبرة الأعداء، ويقررون مستقلين ودون تدخل أي جهة خارجية عربية كانت أو غربية بأن لبنان أغلى وأهم من أرواح جميع الشهداء الذين راحوا ضحية الخلافات والحرب الطائفية والمؤامرات الخارجية؟
متى سنرى قناة المستقبل مثلا تلغي ذلك الرقم المتزايد في زاوية الشاشة ليذكرنا بعدد الأيام التي مضت على استشهاد رفيق الحريري وتحت شعار (لأجل لبنان) والذي يدعونا إلى وجوب كشف الحقيقة التي يعرفها الجميع ولكنهم يهربون منها؟ متى سيسلم حزب الله سلاحه إلى القوات اللبنانية ويرى إن كان لبنان قادرا على حماية نفسه بنفسه أم لا؟ متى سنرى اتفاق جميع الطوائف بدون مصطلحات laquo;موالاةraquo; ولا laquo;معارضةraquo;؟ متى سيتفادى اللبنانيون أن تتحول أراضيهم إلى جهنم أخرى كما حدث في العراق وأفغانستان وغزة؟
اليوم لبنان بلا رئيس (الدولة الوحيدة في العالم بلا رئيس منذ خمسة شهور تقريبا)، وحكومة مختلف عليها، شرعية أم غير شرعية، وشعب ينتظر الفرج الذي لن يأتي إن لم يجلس اللبنانيون ويضعوا نصب أعينهم مصير لبنان الذي هو مصيرهم. هناك تنازلات لا تستدعي الحرب، ولا الخوف، ولا تحتم الصدام، وهي تنازلات شرعية جدا: لعيون لبنان.
التعليقات