حسن عزالدين

أظهرت الاستعدادات التي رافقت تنظيم وانعقاد قمة حلف شمالي الأطلسي (الناتو) أن هذا الحلف العسكري ماض بثبات في تنفيذ خطته الاستراتيجية الرامية لتعزيز موقعه في المحيط الأوروبي ـ الأطلسي، وأنه يستعد للانقضاض على ما تبقى من فلول المنظومة الاشتراكية السابقة وضمّها إلى صفوفه.

وقد تبيّن هذا الأمر على الأقل من خلال اللقاءات الهامشية والرئيسية التي أجراها أبرز قادة الحلف مع ممثلي كل من أوكرانيا وجورجيا، وتصريحاتهم اللاحقة التي تؤكد عزم الناتو على الامتداد شرقاً باتجاه الحدود التي أصبحت تشكل فاصلاً خطيراً بين القوة العظمى المتمثلة في حلف الناتو، وبين روسيا، الدولة الكبيرة الساعية بثبات لإيجاد توازن معيّن يمكّنها من استعادة دورها على الساحتين الإقليمية والعالمية.

وفي خضم هذه المعمعة وما يرافقها من تحركات وتصريحات ومواقف، برزت ثلاثة ملفات هامة ستعتبر من أهم عناوين المرحلة الراهنة لحلف الناتو، وهي مسألة الدرع الواقية من الصواريخ المعادية، ومستقبل البعثات العسكرية في الخارج، واستمرار العمل من أجل توسيع الحلف وضم الدول الأوروبية الشرقية التي أصبحت تعتبر نفسها جزءا من laquo;الغرب الديمقراطيraquo;.

وفيما يتعلق بمسألة الدرع فقد بات واضحا أن الدول المعنية بها، أي الولايات المتحدة الأميركية وبولندا وتشيكيا، ستسعى بكل ما أوتيت من قوة لكسب تعاطف وتأييد الناتو كمؤسسة، بعدما كاد هذا المشروع أن يساهم بإحداث شرخ في العلاقات بين بعض الدول الأعضاء بسبب إصرار الدول الثلاثة على حصره ضمن إطار علاقاتهم الثنائية لا بالإطار الدفاعي الشامل للحلف.

وبدون أدنى شك، فإن هذه المسألة في غاية الأهمية بالنسبة لتشيكيا وبولندا تحديدا، باعتبار أن الفوز بالمظلّة السياسية للحلف سيساهم بتخفيف الضغط الشعبي المتنامي، الرافض أصلا لوجود أية قواعد عسكرية غربية كانت أم شرقية. يضاف إلى ذلك أيضا أن توفير هذه المظلة سيؤمّن الحد الأدنى من التضامن السياسي المحلي في الدول المعنية، انطلاقا من حقيقة أن هناك قوى حزبية فاعلة متمثلة في البرلمانات المحلية لا توافق حتى هذه الساعة على مشروع الدرع الواقية بشكله الحالي.

وانطلاقا مما سبق يعتقد البعض في وسط أوروبا أن تشيكيا وبولندا أصبحتا بطلتي مسلسل الأحداث الذي انطلق منذ فترة وسيستمر بكل تأكيد خلال المستقبل، في حين سيسعى الجانب الأميركي للاستمرار في تكتيكاته الرامية لتهدئة مخاوف روسيا من الدرع، وكذلك من مشروع التمدد اللاحق لحلف الناتو باتجاه حدودها المعنوية الاستراتيجية.

ولا شك بأن المراقب للحركة الدبلوماسية الأميركية باتجاه روسيا يدرك أهمية ما يجري على رقعة الشطرنج الأوروبية بين واشنطن وموسكو تحديدا، بالرغم من أن الهجوم الأطلسي يبدو في إطاره العام أكثر فاعلية وتمددا من التحفظ الذي تعبّر عنه روسيا بين وقت وآخر.

العنوان الثاني الذي سيحتل مركز الاهتمام في حلف الناتو هو مستقبل البعثات العسكرية الخارجية للحلف، لا سيما في بعض دول الشرق الأوسط مثل العراق وأفغانستان. ولعلّ الدولة الثانية تكتسب أهمية أكبر بالنسبة لنشاط الحلف، انطلاقا من واقع تواجده العسكري المكثف هناك، ومغامرته المتمثّلة بقبول خوض المواجهة مع حركة طالبان والمتعاونين معها ضمن إطار ما يعرف بعملية فرض الديمقراطية في هذا البلد المشتت.

ما هو مهم في هذا السياق هو أن الولايات المتحدة تسعى منذ فترة لإقناع الدول الأخرى في الحلف لزيادة مساهمتها العسكرية، إيمانا منها بأهمية الرسالة التي يؤديها الحلف في حربه على الإرهاب. ويبدو أن فرض التغيير في هذا الإطار قد بات ملحّاً، خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الجنود الأميركيين يشكّلون القسم الأكبر من مجمل قوات الناتو العاملة في أفغانستان، ويصل حسب الإحصائيات المتداولة إلى 31 ألف جندي من أصل 43 ألف جندي.

الفريد في هذا العنوان هو أن روسيا لم تبد معارضة ملحوظة للتحركات الأطلسية في البلد الآسيوي المجاور لها، بل وافقت على تقديم بعض الخدمات اللوجستية التي ستساهم بنقل المعدات العسكرية المطلوبة. وإن دل ذلك على شيء فإنه يدل على وجود رغبة لاجترار سياسة تبادل المصالح التي كانت تتّبع بين وقت وآخر ابان عهد القطبين الأوحدين، والتي تسعى روسيا لاستعادتها حتى في حدودها الدنيا إن أمكن.

ومع أهمية العنوانين السابقين، فإن العنوان الثالث المتمثل بتوسيع الناتو باتجاه الشرق يبقى بلا شك الموضوع الأكثر تعقيدا بالنسبة للعلاقات السياسية الإقليمية، وذلك لأنه يطمح لتغيير الخارطة الجيوسياسية والعسكرية على حد سواء. فمعظم الدول التي تناثرت من فتات المنظومة الاشتراكية السابقة وضعت نصب أعينها تحقيق هدفين استراتيجيين: أولهما الانضمام إلى حلف الناتو وثانيهما التكامل مع الاتحاد الأوروبي، وبالتالي الابتعاد كليا عن الهوية الشرقية التي طبعت انتماءها الإيديولوجي خلال عقود طويلة من الزمن.

وقد ساهم ذلك حتى الآن بعزل روسيا على الساحة الإقليمية إن صح التعبير بحيث لم يبق لها من حلفائها السابقين سوى بعض الدول غير المؤثرة كثيرا في محيطها، مثل صربيا وروسيا البيضاء تحديدا، بالإضافة لبعض الدول الآسيوية التي كانت ذات يوم جزءا من اتحادها السوفييتي. أما القوى السياسية الموالية لموسكو في بعض الدول فلم تصل بعد إلى المستوى الذي يؤهلها لقلب الموازين وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.

وبالرغم من أن مسألة توسيع حلف الناتو لا تزال حتى يومنا هذا شأنا أوروبيا أطلسيا بحتا، إلا أن بعض المواقف التي صدرت مؤخراً laquo;بشّرتناraquo; بمعادلة جديدة قد يسعى البعض إلى تنفيذها في المستقبل البعيد على الأقل، وتتمثل بالسعي لضم إسرائيل إلى هذا الحلف العسكري الجبّار.

وقد يبدو الأمر بمثابة دعابة بالنسبة للبعض لكنه بات واقعا مكرسا في أذهان كثيرين من السياسيين المتعاطفين مع هذه الدولة، خصوصاً في بعض دول أوروبا الشرقية التي انضمت قبل أعوام قليلة إلى الناتو.

والخطير في الأمر أن هذا الموضوع كان قبل أعوام محصوراً ببعض المفكرين والمحللين المعروفين بميولهم الصهيونية أو بتعاطفهم مع دولة إسرائيل، وكان يشكّل مادة لكتاباتهم وتخيّلاتهم، لكنه بات اليوم جزءا من استراتيجيات بعض الدول الشرقية، كتشيكيا على سبيل المثال التي لم تتردد وزيرة دفاعها فلاستا باركانوفا بتأكيد إصرار بلادها للعمل من أجل ضم الدولة العبرية إلى حظيرة laquo;الدول الديمقراطية الغربيةraquo; المتمثلة في حلف الناتو.

للأسف، لقد بات موضوع توسيع حلف الناتو يمسّ أمننا القومي مباشرة ولم يعد هناك متسع من الوقت لمواجهة التحالفات الكبيرة القادمة التي لن ترحم أي متقاعس أو مشكك بأهمية التضامن العربي.