حسن مدن

من حق كل امرئ أن يراجع مع الوقت قناعاته وأفكاره ومواقفه، أن يجري عليها تعديلاً أو تدقيقاً أو تصحيحاً. شجرة الحياة خضراء على حد تعبير غوته، أما النظرية فرمادية.

ولكن هذا شيء والقفز البهلواني من ضفة إلى أخرى شيء آخر، خاصة حين يتعلق الأمر بانسلاخ البعض عن ماضيه المفعم بأفكار التغيير والعدالة والتقدم، ليعلن انتسابه إلى واقعٍ جديد يتنكر فيه لكل ما كان يبشر به أو يدعو إليه، بل ويعتبره أمراً معيباً، مثل نقطة العار في تاريخه الشخصي التي لا يكتفي بإعلان البراءة منها، وإنما أيضاً يتمنى لو كان بوسعه أن يمسحها.

كنت أظن أن هذه الظاهرة ذات طابع محدود، قبل أن أطالع عرضاً لكتاب صدر بالفرنسية لدانيال ليندنبارغ، وهو بولوني الأصل، ولكنه ولد في فرنسا، وفترة دراسته الجامعية في السوربون انتسب إلى الحركة الطلابية الديمقراطية التي قادت ربيع باريس عام 1968.

حسب العرض الذي قدمه حسونة المصباحي فإن الكتاب أقرب إلى الكتيب إذ لا يتجاوز عدد صفحاته سبعين صفحة، لكنه أثار سجالاً وجدلاً شديدين في الأوساط السياسية والفكرية في فرنسا، لأن المؤلف شن فيه هجوماً عنيفاً على البعض ممن تراجعوا بعد سقوط جدار برلين عن أفكارهم اليسارية ليصبحوا من أنصار الفكر اليميني.

يعتبر الكاتب أن نقد هؤلاء لماضيهم بالطريقة التي تم بها يتجاوز ذلك النقد الديمقراطي الجدلي الذي يرمي إلى تطوير الفكر وشحذه في ظروف متغيرة، وإنه يندرج في إطار السقوط في حبائل الرجعية الجديدة، التي يراها أشد خطراً لأنها تنقض الفكر التقدمي من مواقع الانتماء السابق له.

ينقل المصباحي عن أحدهم قوله: (لقد شهدت التسعينات ظهور توجهات ثقافية وفكرية جديدة (...) حيث برز شكل جديد من أشكال الرجعية، وبالفعل فإن نقد المجتمع المفتوح يمر الآن عبر حساسية جديدة يمكن أن نسميها ب ldquo;النقد الرجعيrdquo;).
الجديد في أمر هذه الظاهرة أنها تكسر تلك الثنائية التي كانت قائمة بين الرؤى التي توصف بأنها معتدلة وبين الرؤى الثورية للتقدم. أما ظاهرة الرجعية الجديدة، كما يصفها المؤلف، فإنها تعبر عن كراهية وعداء سافرين لفكرة التغيير، وتسليم بما هو قائم بصفته المنجز النهائي المثالي الذي لا يمس، والذي لا يمكن الحلم بتغييره نحو الأحسن.