سليم الحص
الانقسام بين اللبنانيين سخيف بقدر ما هو خطير. إنه سخيف بمعنى أنه يرتسم حول مسائل، ولا نقول قضايا، تافهة. وهو خطير بمعنى أنه استفحل ففرز اللبنانيين فريقين متباعدين، تفصل بينهما هوّة سحيقة من الجفاء، معززة بعصبيات فئوية، مذهبية وطائفية، حادة. ويزيد الوضع خطورة أن السلاح أضحى في أيدي الكثيرين.
هذا الواقع العجيب القائم إنما يستثير في نفوسنا مخاوف وهواجس لا حصر لها.
نتساءل أولاً: علامَ السلاح؟ ألا يدرك حاملوه أنه إذا ما استخدموه فسيجعل منهم قتلة مجرمين؟ وهل من قاتل ينعم براحة الضمير، حتى لا نقول السعادة؟ ألا يعلم هؤلاء أن القاتل مكتوب له الندم، ووخز الضمير هو أقسى ألوان العذاب الذي يمكن أن يتعرض له المرء في حياته؟ فعلامَ حمل السلاح؟ الجواب الذي يطالعنا به المكابرون هو: للدفاع عن النفس. والردّ على هذه المقولة هو في تذكير هؤلاء أن الدفاع عن النفس لا يكون إلا عبر السلطة، عبر الدولة، إن وُجدت. وأنا من الذين يرددون القول: إن خُيّرتُ بين أن أكون قاتلاً أو أن أكون مقتولاً، فأنا أختار أن أكون مقتولاً. هكذا أتحاشى الوقوع في المحظور، في جحيم الندم، أي وخز الضمير، وهو أقسى العقوبات. ولا ننسى مخافة الله تعالى يوم الحساب.
يتذرّع حملة السلاح بوجود السلاح في أيدي المقاومين، وفي استطاعة هؤلاء، قياساً على ذلك، التذرع بوجود السلاح في أيدي عناصر الجيش وقوى الأمن. هل هذا مقبول أو معقول؟ فالمقاومة هي قوة لمواجهة عدوان خارجي، فإذا ما استخدمت سلاحها داخلياً سقطت بكل المعايير. ولو كان الجيش، في لبنان، أو في أي بلد عربي، قادراً على جبه ldquo;إسرائيلrdquo; بكفاءة لما كانت المقاومة في لبنان أو في فلسطين أو في أي قطر عربي. فالكيان الصهيوني اكتسب تفوقه العسكري بفعل الدعم الأمريكي غير المحدود له. لذا أضحت المقاومة حاجة ملحّة لمواجهة العدوان الغاشم، الذي يتجلى باحتلال الأرض واحتجاز الأسرى والاختراقات المستمرة لأجواء لبنان ومياهه الإقليمية، وأحياناً بهجمات برية، وقد أثبتت المقاومة اللبنانية كفاءتها. فإذا كانت المقاومة لعدوان خارجي ضرورة وطنية، فإن التسلح استعداداً لمواجهات داخلية لا يقره عقل أو ضمير.
الأزمة الداخلية محتدمة، وقد بلغت من الحدّة ما بات يهدد المصير الوطني في الصميم. إننا نعيش حرباً أهلية ما زالت حبيسة النفوس والقلوب، ولم تخرج إلى الشارع والحمد لله. ولكن ليس ما يضمن أن تبقى كذلك، وقد شهدنا محاولات للتفجير غير مرة، كان الفضل في قطع دابرها للجيش وقوى الأمن وكذلك لإرادة الكثرة من الناس، الذين صمموا ألا يرتضوا العودة إلى الحال التي مزّقت مجتمعنا إبّان الحرب الأهلية ما بين العام 1975 والعام 1990.
اللافت، أن الأزمة تتمحور على مسائل تافهة لا تبرر حال التأزم الشديد والخطير الذي بات يسيطر على البلد والمجتمع. اختصرت المبادرة العربية التي صدرت عن مؤتمر وزراء الخارجية العرب عناصر الحل بثلاث نقاط: انتخاب رئيس توافقي للجمهورية والاتفاق على تكوين أول حكومة ائتلافية ينطلق بها العهد الرئاسي العتيد، والاتفاق على مضمون قانون عادل للانتخابات النيابية. وقد أصاب وزراء الخارجية العرب في تشخيصهم للأزمة على هذا النحو، بدليل أن مبادرتهم لقيت ترحيباً شبه إجماعي من الأطراف اللبنانيين، ولو أن إشكالات برزت في ترجمة المبادرة صيغاً للحلول المطلوبة. ولم يستبعد هذا المآل من يرى، كما بتنا نرى، أن قادة الأزمة في الجانبين إما لا يبغون حلاً لها، نظراً إلى أنهم يجدون مصلحتهم في استمرارها وهم نجومها، أو أنهم لا يملكون زمام الحل نظراً إلى أن قرارهم ليس في يدهم وإنما في أيدي أسيادهم في الخارج.
هناك توافق ناجز على انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية. ولكن إنجاز عملية الانتخاب ينتظر التوافق على صيغة الحكومة المقبلة ومضمون قانون الانتخاب. والغريب أن لا حوار ولا من يتحاورون. فكيف يمكن أن نتوصل إلى معالجات لهذه المسائل، على بساطتها، من دون تشاور أو حوار بين فريقي النزاع؟
من مفارقات الوضع في بلدنا أننا نحسن التخاصم ولا نحسن التفاهم. تحتدم الأزمة في ما بيننا ولا نلتقي حول طاولة الحوار بحثاً عن تسويات سلمية لخلافاتنا. كنا نتوقع دعوة توجه إلى طرفي النزاع في الخارج، أسوة بما كان في عام ،1989 إذ تلقى أعضاء مجلس النواب دعوة للحوار من المملكة العربية السعودية فكان اتفاق الطائف الذي أنهى حرباً دموية استمرت أكثر من خمسة عشر عاماً. هذه المرة لم يقدم أحد من أشقائنا العرب على دعوة المتخاصمين إلى الحوار خارج لبنان. وكان من المفترض أن تقوم بهذا الدور المملكة العربية السعودية مجدداً. فما أقدمت على ذلك بسبب الإشكال الواقع بينها وبين سوريا. والمملكة، على ما قيل لنا، لا تقدم على خطوة بهذا الحجم ما لم تكن واثقة من نتيجتها. وهي ليست واثقة من النتيجة ما دامت العلاقة بينها وبين سوريا مشوبة بإشكالات الله أعلم بماهيتها ومداها.
أزمة الخمسة عشر عاماً كانت أكثر تعقيداً، فلم تنته إلا بدستور جديد تولد عن محادثات الطائف. أما الأزمة الحالية فهي تدور حول مسائل تافهة، تبلغ حدود السخف. مع ذلك فإن المصير، لا بل الوجود الوطني يتوقف على سرعة حلها. أليس من السخف أن يكون مصير شعب ووطن رهناً بالتفاهم حول ما يعود لهذا الفريق أو ذاك من مقاعد في حكومة مقبلة؟ أو أن يكون المصير رهناً بالتوافق على الدائرة الانتخابية في قانون الانتخاب، بين أن تعتمد المحافظة أو القضاء، وفي حال اعتماد القضاء فبحسب أي صيغة، هل ستكون صيغة 1960 أو خلافها؟ هذه مواضيع تافهة، من السخف أن تكون سبباً لأزمة مستحكمة تهدد مصير شعب ووطن. لو كان الأمر يعود لنا لتجاوزناها وعمدنا إلى انتخاب الرئيس التوافقي وانبرينا للعمل معه وعبره على تحقيق ما نصبو إليه.
نعود تكراراً إلى التذكير بأن حكومة الوحدة الوطنية هي الاستثناء وليست القاعدة في الحياة الديمقراطية. ففي المنطق الديمقراطي الأكثرية تحكم والأقلية تعارض ولا تشكل حكومات ائتلافية إلا في الحالات التي تواجه فيها البلاد خطراً خارجياً أو حرباً، أو في حالات استثنائية مماثلة تستوجب مواجهة التحدي بوحدة الموقف الداخلي. نحن اليوم نواجه تحدياً كبيراً يتهدد مصيرنا. لذا فنحن نحبذ قيام حكومة وحدة وطنية. ثم إننا لا ننعم بحياة ديمقراطية بالمعنى الصحيح، بل بنظام يتحكم بمساره المال السياسي والعصبيات الفئوية العمياء وسطوة زعامات تقليدية موروثة أو شبه موروثة وتدخلات من الخارج.
لو كنت في مكان المعارضة ، لسرتُ في طريق انتخاب الرئيس التوافقي وسلكت طريق المعارضة البنّاءة للحكومة في حال لم تأتِ على الشكل الذي يرضيني. ففي ذلك إنقاذ لشعب ووطن، كما فيه احترام للروح الديمقراطية مع اعترافنا بعدم وجود ديمقراطية حقيقية في بلادنا.
إننا ندعم مبادرة رئيس مجلس النواب في سعيه لعقد حلقة حوار وطني من أجل وضع المبادرة العربية موضع التطبيق. ولكننا لا نراهن عليها لأننا تعلمنا ألا نعقد أملاً على طبقة سياسية مفلسة. وها نحن نشهد محاولات ناشطة لإجهاض المبادرة بالحؤول دون عقد الحوار.
التعليقات